عام التقهقر التكفيري.. بقلم: محمد محمود مرتضى

عام التقهقر التكفيري.. بقلم: محمد محمود مرتضى

تحليل وآراء

الثلاثاء، ٢٦ ديسمبر ٢٠١٧

مع انتشار «الاسلام السياسي» وهيمنته على المشهد العالمي، ساد الاعتقاد لدى الكثيرين أن هذا التيار سيهمين على المشهد في المجتمعات الإسلامية، مع الانطلاق من محدد رئيسي يتعلق بازدياد عدد المساجد وروادها، في وقت ارتفعت فيه نسب التدين الطقوسي لدى الشباب. وقد أدت الاستعراضات العسكرية والجماهيرية للتيارات «الجهادية» الى زيادة رسوخ هذه القناعة. لكن ثمة صدمة مزدوجة أصابت هذا التصور. صدمة «الممارسة السياسية» لهذه الجماعات من جهة، وصدمة «الثورة المضادة» التي تعرضت لها هذه الجماعات من جهة أخرى.
لقد أظهر سياق الأحداث أن هذا التيار يقع على هامش المجتمعات الاسلامية الحديثة، وأنه يفتقد إلى الكثير من الرافعات السوسيو _ ثقافية التي يمكن أن تدفع به إلى التمدد داخل المجتمع.

لقد اثبتت هذه التيارات عجزها عن إنتاج خطاب متماسك، فضلا عن عجزها عن تقديم نموذج سلوكي عملي يمكن أن يحتذى أو يؤسس لنهضة اسلامية فعالة. فالأمر لا يتعلق فقط بقدرة هذه التيارات على تقديم رؤية شاملة تتعلق بإشكاليات التراث العقدي والفقهي والفكري والسياسي وتحديات الإصلاح والتغيير الواقعية، بل لم تستطع أن تقدم نموذجا عملياً ان لم نقل انها قدمت نموذجا معاكسا، بحيث دخلت هذه التيارات في حالة «سيولة» كبيرة فيما يتعلق بالإجابات على أسئلة التصورات التراثية وسبل الاستجابة للتحديات المعاصرة.
على أن تراجع هذه التيارات لا يعني اضمحلالها بحسب أطروحة “أولييفه روا”، الذي استشرف نهاية «الإسلام الأصولي» ذي المرجعية الدينية الرافضة لسيادة العلمانية، وانما يعني أن هذه التيارات ستدخل في حالة من الإحباط والأفق المسدود.
ان الدراسات التاريخية والسوسيولوجية تفضي الى القول بضرورة عدم التسرع والحكم المبكر باستنتاج خلاصات نهائية تتعلق بمصير هذه التيارات، اذ من الواضح أننا مقبلون على واقع أشد تعقيداً، وأبعد عن الهدوء والاستقرار. ويعود هذا الامر الى أن طبيعة تشكيل «العقلية الإسلامية» المعاصرة المسكونة بالهواجس السياسية من جهة، وممارسات الهيمنة الليبرالية التي بدأت تظهر كأيديولوجيا من جهة أخرى، سيدفع هذه الجماعات أكثر نحو الانغماس في «الفعل السياسي» سواء على الطريقة «الثورية» أو على الطريقة «الاصلاحية» القابلة للتمييع.
وهذا يعني التراجع في حدة الاعتماد على الحراك «العسكري» بعد فشله في مواقع كثيرة، مما يؤدي لدخولها في مرحلة التخبط مع التحولات الجارية، وبالتالي ظهورها كحركات اكثر براغماتية.
لقد فقدت هذه التيارات اليوم الكثير من قوتها الدافعة للاستمرارية التي تمتعت بها عند انطلاقتها، ويتمظهر هذا التراجع في مجالات عدة:
الاول: حالة التشظي المرجعي والبنيوي.
الثاني: انحسار الانتشار وتراجع الاستقطاب.
الثالث: الضعف القيادي الرمزي.
الرابع: هامشية التأثير والتغيير.
لقد أدى اتساع الخلافات والنزاعات بين التيارات «الإسلامية» (ومن بينها «الجهادية») إلى إنتاج كم هائل من الأجوبة المتعارضة حول الأسئلة المتعلقة بالواقع. لقد خرجت الاجابات عن النطاق السائغ للاجتهاد «المصلحي» و«السياسات الشرعية»، فدخلت هذه التيارات في مرحلة من التناحر مع تراجع مساحات الأعذار. وبالمحصلة فان «الاسلام الجهادي التكفيري» دفع ببعض الشعارات العامة الفضفاضة من قبيل شعار «الإسلام هو الحل» للتراجع، وافقده عنصر الجذب.
إن هذا التيار التكفيري أوصل «الحالة الإسلامية» إلى منزلق خطير يكمن في تضارب الإجابات على التحديين الأساسيين اللذين واجهتهما التيارات الإسلامية عموما وهما: التحدي الحضاري، والتحدي السياسي.
من جهة التحدي الحضاري فيتمثل في الانتشار الواسع للثقافة الغربية التي تسود مناطق النفوذ المجتمعي الإسلامي والمعززة بأدوات القوة الإعلامية والثقافية. على أن المأزق الحقيقي للتيارات الاسلامية في مواجهة هذا الانتشار هو اعتمادها على نمط المواجهة الوعظية. وهو نمط بات عقيما أمام آلة اعلامية هائلة، وتحديات فكرية كبيرة لا نستطيع تجاوزها بآليات وعظية تقليدية.
أما التحدي السياسي فإن الاشكالية الاساسية تتعلق بكون التيارات الإسلامية قد ركزت على خاصية «الأصالة» و«الخصوصية»، فيما لم تعمل إلا على إعادة إنتاج المفاهيم المتداولة علمانيا وحداثيا مع صبغها بآلية التأصيل. والواقع أن الخطاب الإسلامي بات مسكونا بالهاجس السياسي، مبتعداً عن الهاجس المعرفي ما شكل عملا متناقضا لما ينبغي العمل عليه. فالسلطة المعرفية التي يقدمها الغرب الليبرالي تسكنها هواجس واطماع سياسية، ما يحتم أن تكون المواجهة معرفية بالدرجة الاولى والتي ستؤثر حتما على السياسة.

إن الطبيعة الاجتماعية والسياسية والثقافية والفكرية للمجتمعات هي طبيعة سيّالة، ما يعني أنه لا مجال فيها للفراغ. وأن اي فراغ يخلفه أحد الاطراف فسيملأه آخرون. وفي حالة التيارات التكفيرية فإننا ما لم نستطع ان نطور خطابا معرفيا-سياسيا نملأ به الفراغ، فان البدائل حتما ستكون:
1- تيار التدين النفعي: أو ما سماه الباحث «باتريك هايني» إسلام السوق.
2- تيار الفجور السياسي: وهو التيار المدعوم من جهات سياسية شتى. ويبدو أن التيارات العلمانية قبلت بهذا التيار بعدما فشلت في تسويق صورتها الإيديولوجية الشاملة، لكنها تسعى لوقف أسلمة المجتمع وارتباط الناس بالتدين.
وفي كلا التيارين، فإننا سنعود الى مربع الصراع الأول. أي الى: اما اسلام غربي، أو سياسة غربية. ما لم يكن «للإسلام الحركي» رأي آخر!!
العهد