الاستراتيجية الدبلوماسية السورية في جنيف 2.. هذا ما حصده المعلم من مكاسب

الاستراتيجية الدبلوماسية السورية في جنيف 2.. هذا ما حصده المعلم من مكاسب

مؤتمر جنيف 2

الخميس، ٣٠ يناير ٢٠١٤

ثلاثة سنوات من الصراع المركب والمعقد خاضتها سوريا مع جبهة ممتدة من مجلس الأمن إلى حظائر الإرهاب ، وعلى مستويات عدة من رسم الكاريكاتور حتى الصواريخ البالستية المجنحة . معركة غاية في الشراسة ، وفي منتهى الأهميّة لمستقبل العالم والإقليم وسوريا . تبدأ الأزمات بالإقتصاد ويُعبر عنها بالسياسة ، ثم تكون الترجمة بالأمن والفعل العسكري ، ويتكفل الإعلام بتسعيرها . وتنحوا الأزمات نحو التهدئة عبر بوابة الأمنيّة والعسكريّة ، وتترجم بالسياسة ، ويتولى الإعلام الترويج والدعاية ، وليس من مادة أفضل لتغطية الصراعات وتبرير الأزمات مثل عنوان مصالح الشعوب . أكثر من عام ونصف مضت على إنعقاد جنيف 1 ، واليوم نحن ندخل مباشرة إلى جنيف 2 . ماذا حلّ بجنيف 1 ؟ بإختصار شديد سقط تحت أقدام الجيش العربي السوري في القصير . ماذا عن جنيف 2 ، ماذا تريد منه سوريا ؟ بعض من عناصر الإجابة .
دواع سياسية وإعلامية :
1- ترجمة النصر ، وتحويل المصائد إلى فرص .
عملت أمريكا وحلفائها وأدواتها على الإعداد لمحاصرة سوريا في مؤتمر جنيف 2 ، وتعميق عزلتها ، وإلحاق المزيد من الأذى بصورتها . أُحضرت المئات من الوسائل الإعلامية المرئية والمسموعة والمقروءة لتغطية الجلسة الإفتتاحية لمؤتمر جنيف في “مونترو” ، وقبل إنعقاد المؤتمر بساعات تنتشر على الشاشات والصحف والمواقع الإلكترونيّة ألآف الصور لأشخاص يفترض أنهم ضحايا للجيش العربي السوري والقوى الأمنية . عشرة دقائق فقط للوفد العربي السوري ، وعشرات الدقائق لخصومه وأعدائه ، ولكنهم نسوا كالعادة أنهم يتعاملون مع سوريا . أعد الوفد العربي السوري نفسه مقدماً لكل شيء ، في مثل هذه المؤتمرات ممنوع المفاجآت . إستمر وزير الخارجية المعلم وليد في كلمته لأكثر من خمس وعشرين دقيقة مصحوبة بجدال مع كي مون ، ورسائل موجهة لكيري مباشرة ، فنسي الإعلام من تحدث قبله ولم يلتفت إلى من تكلم بعده إلا للمقارنة معه . تكلّم بإسم سوريا فكان الأصدق والأفصح والأجرأ والأبلغ والأوحد ، فكان مؤتمر الأفتتاح مؤتمر صحفي للمعلم وليد بحضور العشرات من ورزاء الخارجية ومئات الشاشات والمراسلين والإذاعات والصحف . إنه الدرس الذي لن ينسوه أبداً .
2- إظهار طبيعة الحرب ، وجوهر الصراع .
لقد تفاجأت الكثير من وسائل الإعلام الغربية بتشعب المشهد السوري وتعقد مكوناته ، وأكتشف أكثرها كم كانوا سُذّجاً وأغبياء عندما كانوا يصورن المشهد على أنه ثورة شعب ضد نظام . سأضرب مثلاً أُكثف فيه مشهدية جنيف 2 : سعود الفيصل ، أمير من آل سعود ووزير خارجية مملكتهم منذ العام 1975 يتوجه لأحمد الجربا بعبارة “سيادة الرئيس” !!! مشهد يمكن لنا أن نستخلص منه عشرات الأسئلة المُحقة والعميقة ، مثل ، من أنت حتى تدعو رئيس لبقايا إئتلاف لا يمثل أي وزن حقيقي في سوريا بهذه العبارة ؟ وما شأن آخر ملكية مطلقة تحكم في العالم بالنظم الجمهورية ؟ هل وضع الحريات في مملكتك يخولك بإسداء النصائح والتوجيهات ؟ هل أصبحت ممثلاً لإرادة 23 مليون سوري ؟ ما هي مصلحتك في أن يكون “الجربا” رئيساً لسوريا ؟ … . صار يسيراً اليوم وأكثر قبولاً الحديث عن حرب إقليمية دولية تُشن مباشرة ومداورة على سوريا لإسقاط هويتها ، وتحويل سياساتها ، والإنقلاب على رئيسها المقاوم لمشاريع وطموحات غربية وإقليمية وعربية إنتهازية وإستغلالية مجرمة .
3- فتح “كوة” في جدار الجمود السياسي .
صحيح أن الجيش العربي السوري بات يحقق الإنجاز الميداني تلو الآخر ، ولكن الصحيح أيضاً أن تترك “لعدوك” منفذاً ، فلا يُقاتلك قتال اليائس من النجاة فيحاربك ليس بما عنده فقط بل بما هو فوق إستطاعته ، ويمكن من خلاله الوصول لقاسم مشترك يكون سباباً في حقن دماء الطرفين ، ومنع وقوع المزيد من الخراب والدمار . وهذا يساعد على “تشجيع” قوى المعارضة الوطنيّة “الخجولة” على فتح حوار مباشر مع الحكومة السوريّة بعد أن إنخرط في الحوار معها من كان يرفضه بالأمس .
4- تنفيذ حملة إعلامية تعدّ الأكبر والأنجح في تاريخ سوريا .
من يُدقق في طبيعة وفد الجمهورية العربيّة السورية يكتشف سريعاً بأن هناك طابع إعلامي مميز إلى جانب الدبلوماسي والسياسي ، مثلاً ، السيدة بثينه شعبان المستشارة السياسيّة والإعلامية لسيادة الرئيس ، الدكتور عمران الزعبي وزير الإعلام ، السيده لونا الشبل مديرة مكتب الإعلام والإتصال في رئاسة الجمهوريّة … . لقد قام أعضاء الوفد بجهد إعلامي هائل لتوضيح طبيعة الحرب التي تُشن على سوريا ، وحقائق ما يجري فيها ، والحجم المهول للتدخل الأجنبي في شؤونها الداخليّة ، والعدد الكبير للإرهابيين على أراضيها ، وحقيقة “وفد المعارضة” التابع والملحق بدوائر إقليميّة وغربيّة ، والفاقد الصلة بالوطن والميدان معاً . وتمثيله الذي يكاد يكون معدوما للشعب السوري … ويكفي أن أذكر هنا بحقيقة أن الدكتور عمران الزعبي قد أجرى خلال 48 ساعة أكثر من أربعين مقابلة وحديث صحفي .
5- إظهار الطابع المتنوع والتعددي للحكم في سوريا .
أعتذر مقدماً على إبراز هذه الحقائق ، واللغة الهابطة ولكنها الضروريّة لتوضح مسألة مهمة ، ودحض واحدة من أكثر التهم المغرضة والزائفة التي يتشدق فيها أعداء سوريا ؛ بأن الحكم من لون واحد ومن منطقة جغرافيّة محددة . رئيس الوفد ووزير خارجيّة الجمهوريّة العربيّة السوريّة السيد وليد بن محي الدين المعلم الدليمي – دمشق ، الدكتورة بثينه شعبان – حمص ، البرفيسور بشار الجعفري – دمشق ، الدكتور عمران الزعبي – دمشق ، لونا الشبل – السويداء … واللبيب من الإشارة يفهم .
6- فتح الأبواب لمن يقرعها .
لم تهدأ الإتصالات الغربيّة تجاه دمشق منذ أشهر ، الكل يريد أن يدخل في إتصال مباشر مع الحكومة السورية مرة تحت داعي تبادل المعلومات الأمنيّة حول الإرهاب ، ومرة للسؤال عن مفقودين ، وثالثة للتعرف على نظرة القيادة السورية للمستقبل وموقفها ممن حاربوها … كان جنيف مكانا مميزاً لإجراء الإتصالات المباشرة مع السوريين ، ولم تكن السيدة كاثرن أشتون الممثل السامي للاتحاد الأوروبي لشؤون السياسة الخارجية والأمن أول من جلس مع المعلم ولن تكون آخرهم ، ويقال إن لمسؤلين روس جهود خاصة في التوسط لعقد وترتيب مثل هذه الإجتماعات ، وللعلم فإن السيّد بوغدانوف يُتقن التكلم بالعربيّة أفضل من بعض القادة العرب .
7- الفضح والتعرية .
لقد نجح وفد الجمهورية العربيّة السوريّة في فضح وتعرية وفد الإئتلاف ومن يدّعون المعارضة ، ومن يقفون خلفهم مرة تلو الأخرى ، وفي أي موضوع قد يُخضعوه للنقاش ، وإظهار حقيقة إرتزاقهم وعمالتهم من جهة وأن المعارضة الوطنية غير موجودة على الإطلاق في أروقة جنيف من جهة أخرى . لقد كان لورقة المباديء الأساسيّة مثلاً التي قدمها الوفد السوري للنقاش تأثير كبير في فضح هؤلاء ، وإظهار لا وطنيتهم وحقيقة إنتمائهم حيث كان السفير “فورد” هو مرجعهم الحقيقي ، ولم يجرؤ أحد من الوفد على إتخاذ موقف من هذه الوثيقة إلا بعد الإتصال معه والتعرف على توجيهاته . إن المشهد في جنيف بات يُشبه إلى حدّ بعيد لقاء “مصيري” برياضة الملاكمة بين محمد علي كلاي وهو في ذروة عطائه ، وسعود الفيصل على وضعه الحالي . في كل جولة يوجه الوفد السوري الّلكمات كما يريد وأينما يريد ويحصد النقاط ، ويتحين توجيه الضربة الفنية القاضية ، والخصم لا يُحسن إلا الترنح والهروب إلى الأمام .
8- تسهيل إعادة التموضع .
يحقق جنيف 2 فرصة ذهبية للكثيرين حيث يمكنهم “التذرع” بإعادة تموضعهم ، وتخفيف عدائهم لسوريا ، وإنغماسهم الميداني والسياسي في الحرب عليها بإنطلاق عمليّة سياسيّة تجمع طرفي “الصراع” . يمكن ملاحظة هذا التحول لدى الوفد المصري والأردني والمغربي والإيطالي والإسباني ومعظم الدول الإسكندنافية . ويبدو أن “إنفتاحات”كبرى ولقاءات هامة عقدت مع الوفد السوري ، لذلك سارعت أمريكا للإعلان عن إعادة تزويد “المعارضة” بالإسلحة ؛ ومن الأردن حصراً لوقف تدهور الجبهة المعادية لسوريا ، وللتشويش على نجاحات الوفد السوري ، ولوقف مسلسل الإنهيار المادي والمعنوي للمجموعات المسلحة .
9- تصحيح المفاهيم .
يُقال إن أهم إنجاز حققته “المعارضة” يتمثل بإعتراف النظام بها ، والتفاوض معها . قد يبدو هذا صحيحاً للوهلة الأولى ، ولكن إذا دققنا بما يجري في جنيف سنكتشف سريعاً بأن الوفد السوري تمكن من إسقاط هذا الوهم فوراً ، بل ولقد “سحب” من رصيد هذا الإئتلاف – إن وجد – . فما معنى أن يكون وفد “المعارضة” غير قادر على ضمان مرور شاحنات الإغاثة عبر حاجز لكتيبة مسلحة هنا أو هناك ؟ أي تمثيل يحمله وهو غير قادر تقديم لائحة موثوقة للمفقودين والمختطفين ؟ ما الذي تبقى له بعد أن أعلن عجزه عن التمسك بوحدة سوريا وسيادتها وتحرير أرضها وضمان تنوعها ؟ لقد نجح وفد الجمهورية العربيّة السوريّة بتصحيح المفاهيم ، وأن ما كان بديهيّاً أصبح مع هؤلاء أمر يحتاج إلى التدقيق .
أسباب سيادية ومبدئيّة :
وأقصد هنا التأكيد على تلك الأسباب المبدئية والأساسيّة الكبرى الحاكمة لموقف القيادة السورية من “مجمل العمليّة السياسيّة” ، ولا يمكن التنازل عنها أو النقاش حولها .
1- إنهاء أي جدل عقيم حول الإعتراف الدولي والإقليمي و”المعارض” بشرعية المؤسسات السورية القائمة ، والتسليم بالإنتقال من مرحلة إسقاطها إلى الحوار معها ، وقد أنجزت هذه المهمة منذ اللحظة الأولى لإفتتاح المؤتمر وجلوس وفد الجمهورية العربيّة السورية خلف يافطة “الحكومة السورية” .
2- حجز الحكومة السورية لموقعها الطبيعي في أية تفاهمات تتحدث عن مستقبل سورية والإقليم ، فسوريا موجودة اليوم ممثلة بحكومتها الشرعيّة ، وهي حصراً من يتحدث بإسمها عكس ما كان قائماً في جنيف 1 ، وهذا ما حاول المعلم تأكيده سريعاً وبمناورة سياسيّة مميزة عندما وجه كلامه مباشرة إلى وزير الخارجيّة الأمريكي كيري في كلمته الإفتتاحية “بمونترو” .
3- إجبار العالم على التسليم بالحقيقة الماديّة التي حاول الكثيرون تجاهلها أو التعامل معها سرّاً ، ومفادها أن في سورية رئيساً للجمهورية يمارس كامل سلطاته الدستورية ، وحكومة تدير شؤون البلاد من توفير لقمة الخبز حتى تمثيلها في المؤتمرات واللقاءات الدولية ، وسواد أعظم من الشعب يدعم حكومته ويؤيدها ، وقوات مسلحة متماسكة وملتزمة تماماً بقرارات وتوجيهات قائدها العام الفريق بشار حافظ الأسد .
4- حكومة الجمهورية العربيّة السوريّة هي الجهة الوحيدة المخولة بالعمل على إدارة شؤون البلاد على كامل أرضي الجمهورية العربيّة ” فلا ممرات أو مناطق آمنة ، أو بؤر خارج سلطة الدولة ، أو تسليم بإدارة متعددة لمناطق خاصة … في أي حلّ ممكن .
5- مستقبل وشكل سوريا يحدده الشعب العربي السوري حصراً ، وكل ما يقوم به وفد الجمهورية العربيّة السورية القصد منه مصالح هذه الشعب الوطنية الجامعة من جهة ، وسيكون خاضعاً لهذه الإرادة عبر الإستفتاء أو أية صيغة تعبير شعبي مباشر من جهة أخرى . ولنتذكر هنا وندقق بكلمات الأسد في الإجتماع “التوجيهي” للوفد المفاوض : الإرتقاء إلى مستوى التفويض الشعبي بآلامه وآماله ، وذلك بالمحافظة على سيادة سورية كما دائما ، ومنع ورفض أي تدخل خارجي أيا كان شكله أو مضمونه ، ولا تنازل على الإطلاق عن الثوابت الوطنية السورية المعروفة ، وأهمها الحفاظ على الوطن والشعب ووضع مصلحته فوق كل اعتبار” .
6- الجيش العربي السوري والقوى الأمنية الجهة الوحيدة المخولة بحمل السلاح ، وفرض القانون ، والدفاع عن أراض الجمهورية ، وكلّ سلاح خارج هذه المقولة سلاح غير شرعي وخارج عن القانون ، ومتمرد على الدولة وضد الوطن .
7- سوريا دولة عربيّة مقاومة حرّة ومستقلة ، تنسج علاقاتها السياسية والإقتصادية والعسكرية والأمنية إستناداً “لمسطرة” من القيم ، لتحرير الأراضي السورية والعربية المحتلة ، ودعم المقاومات العربية ، ومقارعة الهيمنة والنزعات الإستعمارية … موقع الصدارة فيها ، ولا يمكن لهذه الهوية أن تتغير إلا بتغير موجباتها ؛ فلا تنازل ولا تفريط ولا مهادنة ، واليوم أكثر من أي وقت مضى .