تعزيز لحضور القصيدة الحديثة … «يد على الماء» عودة إلى جوهر الشعر وإيمان بالشاعرية

تعزيز لحضور القصيدة الحديثة … «يد على الماء» عودة إلى جوهر الشعر وإيمان بالشاعرية

شاعرات وشعراء

الأربعاء، ١ يونيو ٢٠٢٢

تطور الفنون الأدبية الإبداعية ضرورة وسيرورة، ومن هنا يجد المتابع أن الشعر الحديث الذي انطلق في آفاق الحداثة الشعرية العالمية عزز حضوره، وانتقل إلى أدبنا، ومنذ خمسينيات القرن العشرين بدأت الحداثة الشعرية تأخذ طريقها بما أطلق عليه الشعر المنثور، قصيدة النثر، ولا أجد تسمية أفضل من (الشعر الحديث)، وقد جوبه هذا الشعر بسيل من العداء، ونكب بنقاد آزروه، لكنهم ما أجادوا التنظير له، والتأسيس له، والدفاع عنه، وبدل أن يضعوه في سياقه الفكري والنقدي والحياتي، دفعوا أنفسهم لمواجهات عقدية كانوا بغنى عنها، ولكنهم أسهموا في دفن حركة الحداثة الشعرية والإبداعية بدل أن يسهموا في تطويرها! فهل توقف الشعر الحديث؟
 
للعلماء وعلى يده
 
ربما كان اختيار الماء ويد الماء اختياراً موفقاً من الشاعر الشاب محمد ظاظا لمجموعته الشعرية الأولى (على يد الماء) التي صدرت عن دار التكوين بدمشق منذ أيام قليلة، وعند استعراض المجموعة وتكوينها يظهر لنا جلياً أن الشاعر جاء إلى قصيدة النثر أو النص الشعري الحرّ عن وعي وسابق إصرار، فهو دارس للغة العربية والأدب، ويعرف الشعر وقواعده منهجياً، ودارس للقصيدة الحديثة وأشكالها إذ لم يعمد إلى تقسيم النص تقسيماً يقرّبها شكلاً من القصيدة المعروفة بقصيدة التفعيلة، وإنما قدّم النص بشكله الحديث السردي أحياناً، وهو ما يدل على اطلاعه على تجارب الشعر الحديث التي قرأناها عند الرواد من أدونيس إلى يوسف الخال والماغوط، وصولاً إلى التجربة المتفردة لجوزف حرب في «السيدة البيضاء في شهوتها الكحلية» إضافة إلى أن إعداد هذه المجموعة للنشر أخذ وقتاً وتفكيراً، وتم تطويبه من أستاذة للنقد الحديث والأدب الحديث في جامعته الأردنية حيث درس، والمقدمة تشي بأن الشاعر يدخل ميدان القصيدة الحديثة لينضم إلى تيار آمن بالشعر والحياة، وبالصورة الشعرية المختلفة، وتقول الدكتورة إيمان عبد الهادي في قراءتها للمجموعة.. ليس قلباً للحقائق أن يكون الماء منسرباً ضائعاً غير قابل للاحتياز، فلا حقيقة في الشعر، لكن قلب للأدوار الوجودية بين النص والناصّ، وقلب للوظيفة، ورفض للتجسيد، فصوت كلمة (ماء) لن يكون صوتاً لسقوط المطر أو تدفق الشلال أو انفجار الينبوع، أو سيرورة النهر، بل صوت للزمن، صوت للكلمات الحية..
 
محمد يتحدى نفسه عبر اللغة وينقحها، ينقح نفسه، قادم كالريح، باقٍ كالصخرة، ضروري كالماء» وهكذا تمضي الأستاذة الجامعية الخبيرة والناقدة في قراءة النص ما بين نوع شعري وآخر، ودور اللغة، وأهمية الخصوصية اللغوية في التمرد على الذات قبل التمرد على النص، ومن ثم توليد لغة تبرز ما لا صوت له بصوت مؤثر وفعّال، فهل هذا ينبئ بضرورة استمرار القصيدة الحديثة على الرغم من تخلّف النقد المرافق لها؟
 
صورة وأفق
 
أحدهم أخبر الرجل الضرير
 
بأن الشمس قد غابت
 
تفاعل بابتسامة
 
كذلك أنا
 
لكن
 
أطفأتها،
 
كي لا يشعر الآخرون بوجودي
 
هنا في الحانة الدافئة
 
يقول الضرير: لا أملك بيتاً، أغلقوا أبوابكم جيداً،
 
لأنام مطمئناً، وبدأ الغناء تمزقاً بحنجرته
 
الصورة الشعرية التي رسمها الشاعر لضرير ما هو بضرير، ولإنسان يخبر الضرير، وهو أقل رؤية من الضرير نفسه، تعمل هذه الصورة الشعرية على رسم مشهدية متكاملة للصورة التي ينقلها لنا، فتجعلنا أمام خيارات مبهرة من الأداء اللغوي والدور اللغوي القادر على رسم اللوحة المشهدية، من غياب الشمس، إلى مظهرية التفاعل التي بدأت بالضرير الذي صدرت ردته قبل أن تصدر عن المبصر لغياب الشمس الذي كان الضرير بحاجة لمن يخبره به، لكنها عند الضرير غابت وحدها، والمبصر قام بإطفائها، والغايتان مختلفتان، فالمبصر يريد التخفي عن الآخرين، أما الضرير فهو رجل غير قادر على التخفي، لذلك يطلب منهم أن يغلقوا أبوابهم ليطمئن هو على نفسه وحنجرته التي تصدح بالغناء الذي يمزقها.
 
وهذه الصور التي يأتي بها الشاعر الحديث، إن كان عارفاً، هي صور موظفة تشبه الحياة التي نعيشها، ويرسمها بلغة شفافة ورقيقة ما يعطيها أهمية وسمواً فوق ما يمكن أن يقدمه شعر تقليدي متوارث بأبيات موزونة ومقفاة، أو أن يقدمها شعر حديث لا يرتكز إلى معرفة فيقدم نفسه بلغة يومية سوقية لا تعرف طريقها إلى الشعرية.. ولو تمّ العمل على مسألة الصورة الشعرية والمشهدية في الشعر الحديث، فإنه كان من الممكن أن يكون رافداً وعنصر قوة في الفنون الأدبية، لكن الصراع الإيديولوجي الذي نشب أضعف الموجود، وقزّم التجربة الأدبية الجديدة، والنقد عجز عن المواءمة بين الجانبين اللذين يحتاجهما الأدب الذي لا يمكن أن يكون محصوراً بشكل، على الرغم من التجنيس الأدبي، وذلك كان ظاهراً منذ أقدم العصور وإلى اليوم.
 
هناك
 
كان جذعك يكفيني
 
لا يتبرأ من جذعي
 
لتبدو الحقيقة عناقاً، والوصول خائراً في دربه
 
ونحن بين سماء تطرح سؤالاً في كل إجابة
 
وأرض نرتقي عنها..
 
بجذعك
 
نعتلي الرؤيا، ونرى ما نراه يرانا!
 
كل الأشياء ترانا، برؤياها
 
هي رؤيتنا ونحن رؤاها
 
الرؤية الفكرية تتضح بشكل جليّ في الشعر الحديث، بأي شكل كان موزوناً مقفى، تفعيلة، شعراً على طريقة النثر، لا يهم، لكن المهم للغاية أن يحمل الشعر رؤية، وأن يقدم ذاته والجيل الذي ينتمي إليه، ولو لم نحبه، ولو لم يكن على هوانا، فإن الشعر والأدب بحاجة إلى مزيد من الحرية، وليست هنا الحرية السياسية بقدر ما هي الحرية الفنية، فهي القادرة على زجّه في ميدان الأدب ليثبت نفسه أو يعود فاسحاً المجال لسواه، المهم ألا ننظر إلى الشعر على أنه غنائي فقط.
 
المشهد إلى صورة مبتكرة
 
انظر!
السماء نفسها السماء
وبشر يتقاذفون ذواتهم بتكرار أهلك نفسه
إذ لا شيء يرتفع سوى مبان بأطرز مبهمة
وقيظ يعتمر القلوب
عائداً إلى غرفتي
ربما أدفأتها أمي بعد حملة تطهير يومية
علاقتي وطيدة مع زخرفات غطائي
وإيماني راسخ بالفراش
ثقة جوفاء بدفئه
خلسة سأدخلها الآن وأختبئ
 
هذه التساؤلات التي يطرحها الشاعر، هي تساؤلات معاصرة تناسب الحياة التي نحياها، وينقل المشاعر التي يشعرها المرء المعاصر، ولكن بأحاسيس كثيرة نبيلة، ولا إسفاف فيها، وكان النمط الشعري الحديث الذي اختاره ملائماً تماماً للصورة التي ينقلها إلينا، والمؤكد لديّ عندما أكون منطقياً أن أجد الشعر الغنائي لا يناسب الحالة الشعورية التي ينقلها الشاعر.
 
ويبقى الشعر الحديث مهما تعددت تسمياته حالة إيجابية لتطور الفنون الأدبية، تحتاج إلى تعزيز ودراسة وتعميق للانتقال إلى حالة أدبية أخرى تولد منها وتناسب العصر الذي تولد فيه كما في الثقافة التي تسلمنا كل واحدة لأخرى.