التخصص وميادين الإبداع الكتابية … هل يمكن للشاعر أن يكون ناثراً ولا يمكن للناثر التحول إلى الشعر؟

التخصص وميادين الإبداع الكتابية … هل يمكن للشاعر أن يكون ناثراً ولا يمكن للناثر التحول إلى الشعر؟

شاعرات وشعراء

السبت، ٢٤ أبريل ٢٠٢١

د. رحيم هادي الشمخي
 
يخطر لي أحياناً وأنا أكتب مقالاتي أن أسأل نفسي: هل يستطيع الشاعر أن يكون ناثراً؟
 
وأنا أطرح هذ السؤال على نفسي، وأحياناً على غيري، كما يطرحه بعضهم علي، لأني أعلم أن الشعر غير النثر، الشعر فن له قواعده وسماته التي يعرفها الجميع، إن لم يكن عن طريق الدراسة فعن طريق القراءة والخبرة المباشرة، لكن الذين يتفقون حول الشعر ولا يختلفون في أنه فن لا يتفقون حول النثر الذي لا يرى فيه الكثيرون إلا أنه غير الشعر، وأنه لغة لا تختلف كثيراً عن لغة الاتصال العادي سواء كانت كلاماً أم كانت كتابة.
 
والواقع أن هذا الموقف من النثر له ما يستند إليه، لأن النثر ليس لغة واحدة، النثر في المكاتبات الرسمية غير النثر المستخدم في التأليف العلمي، وهذا يختلف عن النثر الصحفي، والنثر الصحفي أيضاً ليس لغة واحدة، فلغة الخبر غير لغة التحقيق وغير لغة التحليل والرأي، وهذه الأنواع كلها من النثر تختلف عن النثر الأدبي كما نجده في القصة والرواية والمسرحية، وباستطاعتنا أن نتفق مع الذين يرون أن النثر المستخدم في الاتصال المباشر ليس فناً، لكننا لا ننكر أن لغة القصة فن لا شك فيه، يختلف بالطبع عن فن الشعر، لكنه فن له مقوماته وله أيضاً ميزاته التي تقابل ما للشعر من ميزات، وتبرر وجوده وتجعله ضرورياً كالشعر، وربما كانت الحاجة إليه عند الجمهور الواسع أكبر من الحاجة إلى الشعر، قد يكون الفن في القصيدة أوضح وأكثر تأثيراً وإمتاعاً مما نجده في القصة، والمقصود بالفن هنا هو ما يضاف للغة العادية ليبعدها عن وظيفتها الأصلية وينشئ منها عملاً أدبياً، أقول إن الفن في القصيدة ربما كان أوضح منه في القصة أو الرواية، لكن هذه الأنواع النثرية تغتني بعنصر يفتقر إليه الشعر أو لا يحتاج إليه، وهو الواقع الذي نجده حاضراً في القصة أكثر من حضوره في القصيدة.
 
حضور الواقع في القصة ميزة، وربما كان حضوره في القصيدة عيباً، لأننا نطلب من القصيدة أن تخرجنا من الواقع اليومي الملموس وتصلنا بما وراءه من أحلام وذكريات وتخيلات وهواجس، على حين تقف القصة في نقطة متوسطة بيننا وبين الواقع، تبعدنا عنه بالقدر الذي نتحرر فيه من ثقله، لكن دون أن تفصلنا عما يهمنا فيه، بل تمكننا من رؤيته والرجوع إليه.
 
والسؤال من جديد إذا:ً هل يستطيع الشاعر أن يكون ناثراً؟
 
لكني سأبدأ الإجابة بسؤال يحل فيه كل من الطرفين محل الآخر: هل يستطيع الناثر أن يكون شاعراً؟
 
ونحن نعرف أن معظم الكتّاب الكبار بدؤوا شعراء، بلزاك الفرنسي بدأ بكتابة بعض المسرحيات الشعرية، وكذلك الكاتب الإنكليزي دانييل ديفو الذي بدأ شاعراً وظل يعود للشعر بين وقت وآخر، ونحن نعرف أيضاً أن كثيراً من الكتاب العرب بدؤوا شعراء، طه حسين له مجموعة من القصائد، وتوفيق الحكيم من رواد قصيدة النثر، أما نجيب محفوظ فقد انتهى شاعراً في نصوصه الأخيرة، لكن النجاح الذي يحققه الكاتب الناثر في الشعر أقل على ما يبدو من النجاح الذي يحققه الشاعر في النثر، فروايات غوته، وفيكتور هيغو، وأراجون، وتوماس هاردي، وباسترناك، والمازني، وعبد الرحمن الشرقاوي لا تقل جمالاً عن قصائدهم.
 
والجواب إذاً، جواب السؤال الذي بدأت به، حاضراً فالشاعر يستطيع أن يكون ناثراً، ربما أكثر مما يستطيع الناثر أن يكون شاعراً.
 
لكن فن الشعر يظل مختلفاً عن فن النثر، والسؤال الآن! كيف نفسر اجتماعهما في رجل واحد؟ هل هي طاقات لغوية فائقة؟ أم إنها إلى جانب ذلك طاقات حيوية فائقة؟ والسؤال بصورة أوضح: هل يملك الشاعر في اللغة أكثر مما يملك غيره، فيتمكن بذلك من أن يجعلها سرداً وتشخيصاً مرة، ويجعلها تخييلاً وغناء مرة أخرى؟ أم إن قدرة الشاعر تكمن في طاقاته العقلية والشعورية التي تجعله منفعلاً منتشياً بما يرى ويحس ويفعل فيكتب القصيدة، وتجعله قوي الذاكرة دقيق الملاحظة قادراً على الربط بين المشهد والمشهد وبين الزمن والزمن والفعل ورد الفعل فيكتب القصة؟ يمكن أن تكون هذه الطاقات، ويمكن أن تكون اللغة، لكن كل شاعر أو ناثر حالة خاصة فريدة، لأن هناك عناصر أخرى مؤثرة لم تدخل في الحساب.