التجربة الجمالية في شعر نزار قباني … في يوم ميلاده السابع والتسعين.. كان شجاعاً حتى الرمقِ الأخير

التجربة الجمالية في شعر نزار قباني … في يوم ميلاده السابع والتسعين.. كان شجاعاً حتى الرمقِ الأخير

شاعرات وشعراء

الاثنين، ٢٣ مارس ٢٠٢٠

يمكن في كل عام في هذا اليوم ونحن نتذكر الأمهات، أن نتذكر الرجل الذي أعطى شعره كلهُ لنُصرةِ المرأة حتى اقترن لقبه كشاعرٍ بها، فلم يرفض ولم يتوان بل اعتبر هذا الأمر مشروعه الشعري والجمالي، وحافظ على ذلك طوال حياته التي امتدت زهاء ثلاثة أرباع القرن.
نزار قباني الذي ولد في الحادي والعشرين من آذار عام ألف وتسعمئة وثلاثة وعشرين، وتوفي في الثلاثين من نيسان عام ثمانية وتسعين، لم يكتشف الشعر متأخراً، لا بل يمكن القول إنه أراد أن يكون شاعراً، واتخذ الأمر قراراً، فحزم أمتعته ومشى في درب الشعر، ونال الشهرة الأوسع والجماهيرية الأعلى، فكسر القيود المفروضة على الشعر ووصل إلى كل الناس بلغته وأفكاره وكل ما حلم به.
 
يعرف الناس اليوم نزار قباني من خلال الأغنية العاطفية وبعض ما شاع من قصائد ترنم بها المغنون والمغنيات، ولكن كثيرين اليوم تناسوا الرحلة الطويلة والانعطافات الحادة التي قادها نزار قباني في قصيدته الشعرية التي عمل على الاشتغال عليها وهو في سن صغيرة قد يكون واحداً وعشرين عاماً مع ديوانه الأول «قالت لي السمراء»، وهنا نتعرف إلى نزار الشاعر، المتأثر بشكل واضح بالشعراء الرمزيين والوجوديين، أو وفقاً للمصطلح العربي المتأثر بالشعراء المهجريين، وهنا لا أقصد البنية الشكلانية للقصيدة على الإطلاق، فهذا الديوان بمجمله يأخذ شكل القصيدة العمودية باستثناء قصيدة واحدة اسمها «اندفاع»، لكن المتقاطع هو الموضوعات وآلية تناولها مع أنها في مجملها عاطفية إلا أنها تعتمد خلطة «الجمالي الحسي – الجمالي الرمزي» من دون الخوض بمستويات أخرى في القصيدة أو من دون أن يمتلك كامل الشجاعة للمغامرة، واستمرت هذه الحالة في ديوانه «طفولة نهد» وهو الديوان الثاني له، لكن الانقلابة الشعرية حصلت مع ديوانه «أحلى قصائدي» الذي انتزع فيه نزار الغطاء عن كنزه الشعري كاملاً، ونثره على الملأ ليقدم واحداً من أشهر الدواوين في الشعر العربي الحديث، ليكون حديث الناس لسنوات ويتم اختيار معظم قصائده تقريباً لتكون أغاني يتكئ عليها المغنون في نجاح أغنياتهم.
وفي هذا الديوان نتعرف إلى قصائد مشهورة ومغناة منها «اختاري- رسالة من تحت الماء – نهر الأحزان – طوق الياسمين- قارئة الفنجان – خمس رسائل إلى أمي- وقصيدته ذائعة الصيت التي أشعلت البرلمان السوري يوماً خبز وحشيش وقمر»، وربما هنا يتساءل الكثيرون لماذا اشتهر نزار قباني من دون سواه من الشعراء؟ وهنا يمكن تقديم عشرات الإجابات وكلها صحيحة، في الإجابة الأولى نتعرف إلى مفهوم الشهرة أو الجماهيرية النزارية، لتفتح وجع العلاقة بين الكتاب الشعري والقراء، فصحيح أن نزار قباني كان أكثر الشعراء السوريين والعرب حظاً في تهافت القراء على كتبه ولكنها بالمجمل، هي كتب قليلة العدد من حيث عدد النسخ، فنزار قباني الذي يعرفه الوطن العربي من المحيط إلى الخليج لم تكن طبعة دواوينه الشعرية أكثر من ثلاثمئة نسخة شأنه في ذلك شأن أي شاعر مغمور. وهنا نقول إن شهرة نزار لم تكن شهرة قراء إنما شهرة تتعلق بالحالة المجتمعية والزمنية التي ظهر فيها نزار قباني في بداية انطلاقته، وهو من المؤكد أنها أفضل من حيث الظروف لتلقي الشعر منها اليوم، أضف إلى كاريزما نزار ومستوى حياته الجمالية واعتماده لغة الغزل الطيبة في كل ما يتحدث، وهنا نستذكر ما قاله الماغوط عنه في كتابه الأخير «شرق عدن غرب الله» في رثاء له، إذ يقول بما معناه «إن مشكلة نزار قباني أنه كتب عن العالم كله ومشكلاته بأحمر الشفاه» وهي حقيقة تحتمل النقد اللاذع وفي المقابل تقدم نزار الأسطورة الذي لم ينكفئ ولم يتغير بل حافظ بالوقت نفسه على مستواه الشعري والسلوكي، وفي محاكمته للأشياء، فقد هرب نزار قباني من التنظير والحسابات وكان يغريه أن يقال عنه شاعر، وليس فيلسوفاً أو مفكراً.
في كتب نزار قباني الفكرية والنثرية لا يمكن إلا أن يندفع الشعر في وجهك، فقصيدة نزار الملونة تملأ عينيك أينما قرأتا، فنزار يرى السمكة زرقاء، والعصفور أخضر، والقمر برتقالياً، وهذه بما يخص اللونية تجدها مكتوبة في تجربته الشعرية طوال حياته، فهو شاعر لم يتخلّ عن عدته الجمالية التي ابتكرها وحافظ عليها.
والعدة الجمالية لنزار لم يسبقه إليها أحد من حيث التصوير وتشكيل المفردة وآلية التعامل مع المفردة، كما في كلمة «سيدتي» أو كلمة «نهد» أو سواها من الكلمات التي اعتمدها قباني وسارت الدرب الشعري معه وفقاً لمفهومه وصارت بصمته اللغوية التي لم يتخل عنها، حتى يمكن القول بسهولة إن القصيدة النزارية يمكن تمييزها عن غيرها من القصائد بسهولة وإن أي شاعر يقترب من أدوات نزار قباني ويحاول أن يستعملها فهو سيفقد خصوصيته ويتحول إلى شاعر ينحل الشعر عن قباني، مع أن محمود درويش مثلاً قال يوماً من الأيام «من لم يتعلم الشعر من نزار قباني فليرفع إصبعه»، وبالتالي فإن التعلم من نزار لا يعني على الإطلاق الاقتراب من مساحته التي تأخذك في تيهها الجمالي لتجعل منك نسخةً من دون أصل، والأصل هو نزار والقصيدة في واحدة من تجلياتها تقمصت روح نزار.
سبعة وتسعون عاماً على ميلاد نزار قباني وربما بعد سنوات قليلة سنحتفل بمئوية ميلاده على الطريقة التي تحتفل بها الدول المتقدمة بعظمائها ومفكريها وشعرائها، فهل يا ترى أعددنا العدة لنقول لنزار إننا حققنا لك شيئاً مما تحلم، هل توقفت جرائم الشرف في مجتمعنا؟ وهل توقفنا عن قوننتها؟ هل بات الشعر قنديلنا الذي نستضيء به؟ أم صار التريند التجاري هو ما نعتاش عليه؟ هل صار المغنون أفضل ومقدمو البرامج أذكى؟ هل صارت السياسة والسياسيون أصدق؟ وهل فلسطين بخير؟ أعتقد أننا سننكس رؤوسنا طويلاً أمام ما حذر منه نزار قباني لأننا لن نلحق على الإطلاق في تحقيق ولو جزء يسير من أحلامه وتطلعاته، بل لعلنا سنخفي عنه الكثير من الفظائع التي ارتكبناها بأنفسنا وبمدننا وبشامنا لأن الجمال كان يؤذينا فلم نصمت في حرمه، بل خربناه وابتسمنا للكاميرا.