الشعر المترجم… وعمق شعريته

الشعر المترجم… وعمق شعريته

شاعرات وشعراء

الأربعاء، ٢٠ سبتمبر ٢٠١٧

أحمد محمّد السّح

تقوم التجارب الشعرية المعاصرة التي يتدفق ظهورها، المطبوع أو الالكتروني، باعتماد معايير مغايرة للتجارب التي شكلت وثبات في عالم القصيدة. فمنذ بدء التنظير للقصيدة الحداثوية أو قصيدة ما بعد الحداثة، ظهرت معايير تقييمية بهدف تأطير الدفق الشعري وتحديد مسار نهري لهُ، يوجب عليه المنبع والمصب. لكن هذا الدفق استمر بالفيض خارج المجرى المحدد، ليهدم الأطر المحددة حيث تستمر عمليات البحث من النقاد، للإحاطة بالنص المعاصر.

الترجمة هي أحد أفعال الحوار الثقافي الخلاق بين الأمم
وكان معظم التأثر الذي حصل في هذه التجارب مرتبطاً بشكل أساس بالانبهار الاقتصادي والتجاري بالغرب، وبالتالي اعتبار النص الغربي المترجم أياً كان هو النص المنزّه، وفي رأي الناقد د. جابر عصفور، أن الترجمة تنقسم إلى نوعين من حيث كيفيتها ونوعية المترجم، فالمترجم المحاكي مثلاً في تعداد المترجمين المتأخرين من حيث المكانة، أو بمعنى أدق لا يتمتع بأي مكانة أصلاً، فهو يحاكي النص الأصلي، ولا يستطيع احتواء خصوصيات النص واللغة على السواء، أما النوع الآخر فهو «الترجمة التأويلية» وهي الترجمة الحقيقية والتي تعتبر بمنزلة (الخيانة الخلاقة) للنص المترجم، والمترجم التأويلي، هو الذي يقوم باحتواء النص، وتمثل خصائصه ومضامينه ثم يقوم بإعادة إنتاجه بما يتفق مع اللغة الجديدة والثقافة الجديدة التي ينقل إليها المترجم العمل الأدبي ويؤكد أن عملية الترجمة في هذه الحالة تقوم بالقياس بين ثقافتين مختلفتين، ولغتين منفصلتين إلا أن ثمة تفاعلاً مازال قائماً بين هاتين الثقافتين، فالتأثير مشترك وكذلك التأثر الناتج عن سمة التفاعل بين الثقافات والترجمة هو أحد أفعال الحوار الثقافي الخلاق بين الأمم، وفي المرحلة الأخيرة ساهمت ترجمة الشعر على وجه الخصوص في ظهور ألوان وأجناس أدبية جديدة أصبح لها تأثير فاعل في الحركة الأدبية العربية.
على أن رأي الدكتور جابر عصفور الذي عرضناه بشيء من الاختصار والتصرف له وجهات نظر معارضة له تعتبر أن ما يسميه تأويلاً للنص وخصوصاً الشعري منه هو خيانة لوجه نظر الشاعر وللشعر، لا بل إن توخي الدقة والحذر من المترجم هي الهدف المنشود في عملية الترجمة الأدبية لأنها كثيراً ما تتكرس هذه الترجمات لأجيال لا يمكن تجاوزها، كما تكرست ترجمة الدكتور سامي الدروبي لديستويفسكي ترجمة مرجعية، لم تنجح أو لم تحدث أي ترجمة بعدها في عرض الروايات بتصور آخر.
ويرى بعض المترجمين أن الترجمة ليست عملية تقنية يستطيع الجهاز الالكتروني أن يقوم بها إنما هي في الآداب يجب أن تسمى «فن» مع ضرورة الحفاظ على ثوابت النص وعدم تأويله، وكذلك يجب مراعاة أبعاد القصيدة، والحفاظ على ماهيتها ووظيفتها الأساسية، مع ضرورة أن يترجم الشعر نثراً، لكي تسهل عملية الترجمة، وتخرج من منحناها الشاق الذي يجعلها عملية تصنيعية تفقد القصيدة قيمتها تماماً، لذلك الأفضل أن يترجم الشعر نثراً، وهو ما يحدث فعلاً حيث يتم نقل النص الشعري بصيغة نثرية مع حذف الأوزان التي تم استخدامها في لغة الأصل، أو يحدث أن تتم ترجمة النص بلغة شعرية ويحدث هنا تناص حيث يقوم الشاعر بنظم نص مقابل للنص الشعري ولكن بأوزان اللغة المترجم إليها، كما فعل أحمد رامي حين ترجم رباعيات الخيام لعمر الخيام حيث نظمها بشاعريته هو لا بشاعرية الخيام، وكما فعل عبد الرحيم الحصني حين نظم ملحمة «التلة» الشعرية عن الشاعر البلغاري إيفان فازوف، بعد أن ترجمها له حسين راجي.

الشعر المترجم للنخب
المثقفة وليس للعامة
وهل يمكن اعتبار الترجمة مقياساً حاسماً (ليس وحيداً بالطبع) لقياس جودة الشعر، تتضارب الآراء وتتنوع لكنها دائماً تجد أن الشعر المترجم يفقد الشاعرية فروبرت فروست يقول: «إن الشعر هو ما يضيع في الترجمة» وممدوح عدوان أكّد: (أن الشعر المترجم ينقصه الشعر) ومما لاشكّ فيه أن شيئاً من الشعر يضيع في الترجمة لكن بعض الشعراء المترجمين يجدون في هذه الآراء مغالاة ويعتبرون أن الترجمة حالة ضرورية لضخ الدماء إلى النخب الثقافية، إذاً إلى النخب المثقفة وهو ما يتم تأكيده بأن الشعر المترجم يندر أن يصل للعامة، مهما علت جودته، لكن يفتح نوافذ ما أمكن على المثقفين، أما رؤية الشعب وتعبيراته فستكون حكماً أصيلة بنت لغته، فليس لأم أن تهدهد أغنية مترجمة لطفلها لكنها ستغني له ما تحفظه من لغة بلادها.
اليوم كلنا يقرأ الهايكو أو يسمع به، والكل يعرف ريتسوس، وشكسبير، ورامبو، وكثيرين رغم أننا لم نقرأ إلا نعيم عطية ورفعت سلام ومحمد عناني ورمسيس يونان. ولكننا قرأناهم بلغة هؤلاء المترجمين وقد وصلونا وحفظنا ما قالوه، لماذا؟ لأن هناك شعراً جماله يتجاوز لغته. هناك شعر لا يلتصق بثقافته المحيطة المباشرة الالتصاق الذي يمنع انتقاله منها إلا مثقلاً بالهوامش شأن البحوث والمقالات. هناك بالأحرى شاعر يعرف موقعه الحقيقي من العالم، يعرف أن وطنه أوسع من بلده، وأن جمهوره أوسع ممن لا يطربون إلا لتلاعبه اللغوي.
يبقى أن الترجمة تعجز أحياناً عن نقل العواطف فاقرأ مثلاً نصوصاً شعرية ترجمها الأديب مصطفى المنفلوطي لشكسبير ستعجبك كثيراً، ولكن المفاجأة عندما تقرأ النص الأصلي للقصيدة ستجد الكثير من العواطف والمشاعر عكس ما تناوله ووصفه المنفلوطي، فالأشكال الأكبر في ترجمة الشعر بالذات يأتي من طبيعة النصوص والطريقة التي تستخدم بها اللغة، فمن النادر أن تجد الكلمات المترجمة المعبرة، والتي فيها الجرس الموسيقي نفسه، وبالتالي لا تستطيع الترجمة أن تأتي بروح النص. لكنها تبقى الوسيلة الأهم لنقرأ ونتواصل مع العالم ويتواصل العالم معنا، مع ضرورة أن يبقى الشعراء حذرين من الوقوع بفخ الكتابة على سياق المترجم لأنهم بذلك يكتبون شعراً مترجماً عن المترجم وتكون المسافة بينهم وبين القصيدة قد صارت بعيدة جداً.