دعد حدّاد وأمل جرّاح نموذجان لشاعرتين .. ابتعدتا عن نواح قصيدة الأنثى

دعد حدّاد وأمل جرّاح نموذجان لشاعرتين .. ابتعدتا عن نواح قصيدة الأنثى

شاعرات وشعراء

الأربعاء، ٣١ مايو ٢٠١٧

 

أحمد محمد السح

يبدو أن مرور السنوات لم ينهِ الصراع الذي حدث حول تجنيس الأدب في خمسينيات القرن الماضي مع ظهور أسماء نسائية كانت جزءاً من الحراك الثقافي، لكن الأيام أثبتت أن هذا الصراع – للأسف – تجذّر لمصلحة الرأي الذي قال بأن للمرأة صوتاً مختلفاً في القصيدة وشجعها على ارتداء الزي النسائي في القصيدة إمعاناً منهُ في تمييزها بهدفِ إظهار الشفقة تجاهها لا التشاركِ معها نداً لندّ. واليوم يبدو أن النساء يتوارثن هذه اللغة ويجنحن إلى تمثّل هذه الصيغة من الشعر، لكسبِ مزيد من الاستعطاف، متناسياتٍ هنّ ومن معهن من الرجال أن هذا التنشيز لن يزيد في الشعرِ بيتاً ولن يعطي للمرأةِ دوراً إنما يفتح باب الابتزاز والانتقاص ويهدمُ ما سعت إليه أديباتٌ كان جلّ همهن أن يقلن للمجتمع إنهن واعيات لما يدور حولهن في مختلف مناحي الحياة، في السياسية والاقتصاد والعلم والمعرفة، وقادرات أن يعبّرن عنه في الأدب ويكملن ما يتناساه الرجل في نظرته الشمولية.

ولا بدّ من تذكّر النفيس في الأدب دائماً بقصد أن تسعى الأجيال إلى الاتكاء على أدبٍ نظيف حيث إن (الأسى والقهر واللوعة وأزيز السرير…) بات اللغة المعتادة فيما ينشرهُ هذا الجيل ذكورهُ قبل إناثه، حتى يبدو لناظرٍ من بعيد أن القصيدة اليوم لم تخرج من غرف النوم وكأنّ الهواء الفاسد لم يقتل ما لدينا من مشاعر بعد بل نصرّ على التقوقع في أمراض الروح والجسد. فهل من الممكن أن نجد منابر مضيئةً فيما قدمته شاعراتٌ فيما سبق، ربما أريد الاعتماد على شاعرتين من الجيل الذي نشر في سبعينيات وثمانينات القرن الماضي مبتعداً عن الجيل التأسيسي علنا نكتشف ملامح جديدة في القصيدة الموقعة باسم أنثى، وهما الشاعرة والروائية السورية أمل جرّاح (1945-2004) والشاعرة السورية دعد حدّاد (1937-1991) وهنا سنعتمد على ديوان لكل شاعرة يعكس ملامح ما قدمته هاتان الشاعرتان في باكورة أعمال كل منهما وهو «رسائل امرأة دمشقية إلى فدائي فلسطيني 1970» لأمل والديوان الآخر «تصحيح خطأ الموت 1981» لدعد، وتبدو أولى الملاحظات أن الشاعرة حداد قد نشرت في سن متأخرة وفي رصيدها ثلاث مجموعات شعرية فقط، بينما اتجهت الشاعرة جرّاح إلى الرواية بعد هذا العمل، كما أن كلتا الشاعرتين اعتمدت على قصيدة النثر في شعرهما، مبتعداتٍ بشكل كامل عن الهمهمات والتوجعات والكلمات المتناثرة على صفحات المجموعة الشعرية إنما تجد نصوصاً شعرية ذات جمل شعرية طويلة متماسكة ومسكوبة لا تعتمد التأتأة والبأبأة وسواهما من التلعثم في إيصال ما يردن من النص فلنقرأ في نص بعنوان «صبية تحت أقدام الفاتحين» للشاعرة جراح فتقول:
«أعرف، أنني يوماً ما، سأرحل
كنتُ أعرف أنه لا بد يوماً، أن أذهب رحلتي الأبدية
ودائماً أحاول ألا أفكر بصورة الرحيل
وكيف تكون
وأخاف أن تفلت هذه الحياة الثرية من يدي».
وبالمشابه سنجد أيضاً ذات التماسك وذات الهم الإنساني العام لدى الشاعرة حدّاد حيث تقول في نصٍّ بعنوان «أصيخوا السمع»:
«قرأتُ في صفحات الكتبِ السماوية
والبشرية
قرأتُ في صفحاتِ الوجوه
التي حُرِمتْ نورها
وفي الحركات الطفولية
المفاجئة والمرتعدة…
أصيخوا السمع، حينما تتحدثُ الأرض عن تشققِ تربتها».
لقد اعتمدت كلتا الشاعرتين على القصيدة بمحتواها وفكرتها الإنسانية من دون الاتكاء إلى إبراز صوت الأنثى في النص فأنت قارئ حينما تقرأ النصين السابقين ستجد في الأول صيغة العذاب الإنساني وهواجس الموت وإمكانية الإنسان انتقاء الموت الذي يليق، بينما في النص الثاني تبرز الشاعرة حدّاد فكرة ثقل الأفعال البشرية على جسد الأرض، وهما فكرتان لا تخصان قضية التجنيس في النص الأدبي إنما هما قادران على اختراق عوامل إنسانية مناسبة للزمان الذي نشر فيهما النصان ولربما لزمان ممتد أكثر فأكثر. وحين نؤكد أن الشاعرتين لم تتجاهلا زمنهما، نجد مثلاً أن جراح كانت حينما تغازل تتجه في غزلها إلى رجل المقاومة الفلسطيني في ذروة الزمن الذي ضغط العالم كله على المقاومة الفلسطينية وأراد كسرها فتقول:
«خذني معك، مرةً واحدةً خذني معك
خذني معك تحت معطفك لأسمع وجيب قلبك
وأنت تزحف
لأرد عنك بلل الماء وأنت تقطع النهر الحزين
لأمسح عن وجهك غبار الأرض بشفتي».
فالحبيب مقاوم وحتى القبلة بالشفتين لا يستحقها سوى وجه المقاتل الذي يزحف على الغبار والطين، وليس وجه الحبيب الناعم المغطى بكسل غرف النوم التي تفوحُ روائحها من المجموعات الشعرية المتناثرة على أرصفة المكتبات، وتتقلد من خلالها الشاعرات الأوسمة اللماعة والأحذية بالكعوب العالية، معتبراتٍ أن مشاعرهن فقط كإناث هي ما تميزهن لذلك فعليهن أن يكتبن ما يردن من المشاعر والتقلبات النفسية، ويلصقنه تحت عناوين موحية ومموهة ويقلن هذا شعرنا، إن لم تقبلوه فسنبدأ نوبة النحيب حول اضطهاد المرأة والعنصرية تجاهها، حتى إنه تبرز ظاهرة ربما شاملة للجميع اليوم، ولكنها مخصصة للنساء أكثر، حيث يعتبرن أن كتابة الشعر اعتماداً على الأوزان الفراهيدية سقطة ذكورية تجعل الشعر ينبتُ فوق شفاههن الناعمة فيسارعن إلى مقاطعته دون أي إدراك لمزايا قصيدة النثر، أو قصيدة التفعيلة أو القصيدة العمودية، ولكنني سأستعين هنا بقصيدة أوردتها الشاعرة حداد وهي المحسوبة على شعراء قصيدة النثر ولكنها تورد نصاً موزوناً بعنوان «أسير الريح» فلم يأسرها انطلاقة ريحها الوزن إنما أعطاها بعداً إضافياً فتقول:
«الرعبُ سيد البحار أنت قلت لي
الموتُ سيدي وأنت قلت لي
بأنني بأنني التي بأنني
نسيتُ ما قد قلت لي
… عكازتي سفينةُ الظلال
وترتمي أشعةُ المساء شاحبة
فنلتقي لمرّةٍ كمتعبٍ ومتعبة».
إن الذي أورده هنا جزءٌ يسير من الكثير من العبر التي يجب أن نقتدي بها في قراءتنا للشعر، وكتابتنا له، مبتعدين عن هذا الطقس السائد والهواء الفاسد، مستندين إلى العديد من الدراسات التي أثبتت أنه ما من جدوى لهذا التمييز العنصري بين النص الموقع باسم أنثى أو ذكر، فالنص نص – والقصيدةُ قصيدة جيدةٌ أو رديئة، وما هذه الشوائب التي تعلقُ هنا وهنا إلا أعوادُ ثقابٍ محترقة حتى لو التمعت فهي لن تطيل اشتعالها، وما الشاعرتان السوريتان أمل جراح ودعد حداد إلا نموذجان من عشرات الشاعرات الحقيقيات اللواتي يجب الاهتمام بما كتبنهُ لأنهن كنّ بعيداتٍ عن ترهات التجنيس مقترباتٍ فقط من روح الشعر وعبق القصيدة.