غياب المطوّلات من الكتابة الشعرية الجديدة.. علامات ضعف أم تبدّلات في الذائقة؟

غياب المطوّلات من الكتابة الشعرية الجديدة.. علامات ضعف أم تبدّلات في الذائقة؟

شاعرات وشعراء

الأحد، ٢٥ فبراير ٢٠١٨

يمكن وصف الظاهرة بالعامة، ففي الكتب الشعرية المطبوعة وفي مواقع التواصل الاجتماعي، وفي المدونات الإلكترونية والمنابر المختصة بالشعر، لم نعد نعثر على القصيدة الطويلة إلا بشكل نادر، ونحن هنا لا نقصد ميل الناس إلى كتابة الهايكو الياباني المعروف، بل إلى كتابة قصيدة المقطع القصير أو الومضة أو تلك التي لا تغطي إلا جزءاً يسيراً من الكتاب المطبوع، بل إننا في بعض الكتاب نكتشف أن عدد كلمات القصيدة لا يتعدى الخمسين كلمة!. وفي كتب أخرى لن نفاجأ ونحن نقرأ كلمة واحدة في كل سطر من المجموعة الشعرية، والقصد من ذلك هو إملاء الصفحات فقط!. فهل القضية مرتبطة بقحط يعصف بالمخيلة أو تبدلات بالذائقة؟ هل القضية بسبب تبدلات عصر السرعة، أم إن هذه العلامات دليل مرض خطير هو غياب الحرفية وانعدام الثقافة وشحّ الرصيد الذي يمكن أن يمتح منه الشاعر ويغذي قصائده التي تضمحل وتضمر إلى درجة الضآلة؟.
من يتابع المنشورات على وسائل الاتصال الإلكترونية في شبكة الإنترنت، يتأكد مباشرة من انقراض النص الطويل بشكل كامل، بغض النظر عن المستويات الإبداعية التي ينشرها الكتاب أو أنصاف الكتاب والكاتبات على الشبكة، إلا أن الجميع باتوا من مؤيدي تشذيب الكلمات والاكتفاء «بأصنصات» منها كي يعبروا عما في دواخلهم، لكن النقاد فسروا هذه الحالة بعطب كبير ألمّ بالذائقة والمخيلة والإمكانات الثقافية التي انعكست على الأساليب تالياً..
يقول الناقد أحمد علي هلال: «ربما يحدث ذلك تحت مسوغات الكثافة واللحاق بالصورة، وهذا ليس سبباً كافياً، بل أذهب للقول بمسألة السعة وتفاوت التخييل وثمة من علّل ذلك بموت الخيال».. لكن من جانب آخر، لا يبدو قصر الجمل وتالياً النص تهمة كما يرى آخرون، فمن ميزات الشعر الاختصار والتكثيف وأن يقول المرء أكبر قدر من المعاني بأقل قدر من الكلمات!. ألا يعدّ القصر والتكثيف في النصوص علامة على مقاربة مفهوم الشعر عوضاً عن تشويهه بالسرد الممل والمغرق بالتفاصيل التي لا معنى لها؟.
تقول الشاعرة نينار إيليا: بالدرجة الأولى يعود السبب إلى شح في الإبداع ونقص مؤلم في الثقافة والمطالعة.. القصيدة الطويلة تحتاج جرأة في الطرح والتحليق أياً كان الموضوع..!.
إذا كان الأمر كذلك، فثمة كارثة تعصف بالشعر المكتوب اليوم أو ربما بات ديوان العرب خارج المهمات التي تنكبها تاريخياً منذ زمن المعلقات الشهيرة حتى قرون متقدمة بقيت القصيدة ثابتة فيها لا تتغير ولا تبدل ثوبها أو عطرها أو مسيرتها طوال عشرات الأبيات تتجاوز المئة في أقل تقدير!… يقول هلال: الكثافة هي في بلاغة الشعر، أما غياب المطولات فعلى ما يبدو أنها تأتي تحت ذرائع إضافية ليس أقلها تحديات الصورة بل هشاشة المعجم، وأوهام الحداثة، وكي لا نظلم أحداً، ثمة من يكتبها ويفيض بها لكن الندرة فقط وأعتقد أن أصل الإشكالية هي الذائقة المتطلبة ومحاولات إرضائها أكثر من الذهاب في التجريب الواعي الذي يعلل تجربة القصيدة الحديثة، وممارستها بوعي وفي الأغلب الأعم، ربما تركت الثورة الرقمية بعض تجلياتها على صنوف الإبداع، ليكون اللهاث إن جاز التعبير حول الصورة كمكون للقصيدة وعلينا أن نرى كم تتفاوت هذه القضية من تجربة إلى أخرى، ببساطة لدي تعليل إضافي هنا هو في محاولات استرضاء الذائقة وآلية التكثيف غير المسوغة معرفياً وكل ذلك سيشير لاحقاً إلى غياب مؤسس للأبعاد الثقافية المؤسسة والمسألة برمتها ليست في غياب المطولات وإبدالها في التقصير والضبط بقدر ما هي مفارقة تحكم أنساقنا الثقافية في الوعي وأشكاله والاستيعاب لماهية الشعر وتطويعه لارتكابات مخيلة سريعة تحتفي بما هو عابر وليس جوهرياً تماماً..
يثير هلال هنا أكثر من شجن فيما يتصل بالنص الشعري، فإذا كان موضوع طول النص من الوجهة الشكلية صحيحاً، لماذا لا نعثر على الشعر العظيم هذه الأيام رغم أنه يحقق ميزة التكثيف التي تعدّ أساسية في القصيدة؟ وهل السبب يمكن أن نربطه بفورة التكنولوجيا وعصر السرعة وتحول الكتابات الشعرية إلى بوستات يلتهمها الناس بالسرعة القصوى مع عدم وجود أي وقت للوقوف على الأطلال وسرد المقدمات أو الدخول في التفاصيل المملة التي يهرب الناس منها؟. ثم أليس هناك فن اسمه القصيدة الومضة والتي يستبدل تسميتها هذه البعض بتسمية قصيدة الهايكو اليابانية؟.. تقول نينار إيليا: ما من أفكار في رؤوس أصحاب أقلام هذه الأيام.. القصيدة المطولة تحتاج دماغاً دسماً.. ومن أين يأتي هذا في ظل هذا الانحطاط الثقافي؟. البحث عن أسباب غياب النص الشعري الطويل عملية شائكة، وخاصة إذا أخذنا بالاعتبار تبدلات العصر وصعود الأسئلة وتبدل دور الفنون ودخول أخرى على الخط، إضافة إلى أن ديوان العرب بات مثخناً بالجراح كما يقول البعض وذلك بسبب الاستسهال وانتهاك الذائقة والكثير من القضايا الفكرية التي تحتاج بحثاً عميقاً بالتأكيد!.