“تجارب حياة”.. عُلب البسكويت التي أصبحت عُلباً للخيطان والمقصّات

“تجارب حياة”.. عُلب البسكويت التي أصبحت عُلباً للخيطان والمقصّات

شعوب وعادات

الخميس، ١٨ أغسطس ٢٠٢٢

لبنى شاكر:
اتفقت أمهاتٌ سورياتٌ في زمنٍ مضى على تحويل عُلب البسكويت المعدنية إلى عُلبٍ مُخصصة لأدوات الخياطة، ومع إن خيبة الأمل أصابت جيلاً كاملاً من الأبناء الذين وجدوا خيطاناً ومقصّاتٍ بدل القطع الصغيرة المُحلّاة بالسُكّر الناعم، إلّا أن تلك العادة كانت تقليداً مُتعارفاً عليه، كذلك تحوّلت “تنكات” السمنة إلى أوانٍ حافظة للمونة، وانسحب الأمر إلى أكياس الخضار وعبوات اللبن والثياب المُهترئة والكرتون، وكل ما استطاعت ربّات البيوت الاستفادة منه ثانيةً، بعد إتمامه مهمته الأساسية، وبذلك كانت إحداهن تفوز بلقب “المُدبرة” و”الشاطرة”، ومن دون أن تدري “الفنانة”، لكونها صنعت شيئاً مُفيداً مما هو مُعدٌ للرمي بعد الانتهاء من استعماله.
الإجماع على أنّ جداتنا فنانات، لا يعني حتى اليوم إجماعاً مُوازياً على أن إعادة التدوير “فن”، وفي ذلك اعتراضٌ ضمني على فكرتي “الفائدة والاستعمال” كغايتين للفن بدايةً، ومن ثم النظرة باستعلاء إلى المواد المُستخدمة، والتي اكتفت بنفسها ولم تحتج إلى ريشة وألوان ومعادن معروفة المنشأ كما في الرسم والنحت، حتى إن البعض رفض كُليّاً مقارنة الأعمال المُعاد تدويرها باللوحة والمنحوتة المشغولتين بالأرواح قبل الأيدي، ولِغاياتٍ أسمى بكثير من التزيين والتوفير وتلبية الاحتياجات اليومية، فكيف يُمكن التفكير بعملٍ فنيٍّ عن مدينةٍ أو معركةٍ أو حكايةٍ غيّرت العالم، والانتقال بعدها إلى عملٍ “فنيٍّ” قوامه قشور البيض والبلاستيك وزيت الطهو مُنتهي الصلاحية؟، ولو كان كلاهما جميلاً عموماً، لكن الاختلاف بينهما هائل!.
توصيف مجموعات من المواد على أنها مُبتذلة وفاقدة للقيمة، لم يحد من دورها فعلياً، بل ربما كانت مُلهماً للفنانين سواءً اعترفوا بذلك أم لا، وهنا مثلاً يُنقل عن “ليوناردو دافنشي” اقتراحه لطلابه، مراقبة بقع العفن على الجدران وتلافيف الغيوم في السماء والحفر المليئة بالماء التي تخلفها حوافر الدواب على الأرض، كما يُعرف عن “بابلو بيكاسو” استعمال الجرائد القديمة والخشب في بعض أعماله، إضافةً إلى أنه رسم لوحته الشهيرة “الحلم”، التي كانت سبباً في انهيار زواجه، بالزيت على قطعة كرتون، ولإنجاز منحوتته “رأس الثور” استخدم مقوداً وكرسي دراجة، وفي “امرأة تقرأ” وضع براغي لصنع الذراعين والرجلين.
يحتال البعض على مُصطلح “إعادة التدوير” بتصنيفه ضمن خانة الاقتصاد لا الفن، ويستند هؤلاء على شمولية فكرة التدوير التي بدأت من المنازل، وأصبح لها لاحقاً ورشات ومصانع ونظريات جعلت منها داعماً لنهضة العديد من الدول، ولاسيما التي عايشت حروباً وكوارث بيئية، وعلى عكس ما تذهب إليه آراء من أن التطور التكنولوجي وتغيّر أنماط الحياة سيقلل من إمكانية إعادة تدوير الأشياء حولنا، إلّا أن الواقع يقول العكس، فحتى بطاريات الحواسيب المُعطلة وشاشات الموبايلات المكسورة والفلاشات ذات المساحات الضئيلة للتخزين، وجدت مَن يصنع منها شيئاً جديداً، وإذا كان النقاش سيعود بنا دوماً إلى تعريف الفن وتحديد النبيل والرخيص منه، فلا يمكننا إلّا أن نتذكر كيف جعل البعض من “التشكيل” فناً نخبوياً، قابله الجمهور بنخبويةٍ أخرى، ومرّ بجانبه من دون أن يلتفت.
تشرين