«مهرجان القاهرة السينمائي».. مغامرة التجديد وثقل التاريخ والراهن

«مهرجان القاهرة السينمائي».. مغامرة التجديد وثقل التاريخ والراهن

سينما

الثلاثاء، ١١ نوفمبر ٢٠١٤

لن تكون الدورة الـ 36 (9 ـ 18 تشرين الثاني 2014) لـ«مهرجان القاهرة السينمائي الدولي» عادية. يُواجه المهرجان تحدّيات شتّى جرّاء ظروف خارجية (انقلاب الأوضاع السياسية والأمنية والحياتية في مصر منذ «25 يناير» 2011) وداخلية (الاهتراء الفظيع المُصاب به منذ أعوام عديدة، تنظيماً وإدراة وتوجّهات وأهدافاً). يُواجه تحدّياً أساسياً متمثّلاً بكيفية استمراره في تنظيم دورات سنوية، وفي تغليب فعل التطوّر الثقافي والفني، الهادف إلى تأكيد استمراريته هذه، وإيجاد مسوّغات تجديدية له. الناقد السينمائي سمير فريد ممسكٌ بزمام الأمور، بعد تخبّط واضح للمهرجان، كاد يقضي على سمعته العربية وحضوره الدولي. الناقد يُتقن دهاليز إدارة مهرجان سينمائي ليس سهلاً عليه (المهرجان) الخروج من فضاء السلطة الحاكمة في بلد كمصر. يُصرّ فريد على إيجاد توازن دقيق بين حاجة المهرجان إلى دعم رسمي كبير، وبين مكانته كحدث ثقافي وفني. يُدرك الصعوبات. يسعى إلى فتح نوافذ تتيح للدورة الجديدة هذه أن تكون سينمائية بامتياز، وإن بركيزة تتدخّل في تركيبتها أجهزة متنوّعة في الدولة، كوزارات الخارجية والداخلية والاتصالات والسياحة، بالإضافة إلى وزارة الثقافة.
تجديد
لن تكون الدورة هذه عادية. واضحٌ، منذ ما قبل الافتتاح، أن هناك شيئاً جديداً يصنعه سمير فريد وفريق عمل مكوّن بغالبيته من شباب متجانسين مع مخضرمين: تغليب السينما، ومحاولة الجمع بينها وبين فنون أخرى في أطر احتفالية. يكتب الناقد فريد في كاتالوغ «أحمر أزرق أصفر» للفنانة الإماراتية نجاة مكي أن هذا المعرض الفني التشكيلي «باكورة رؤية جديدة لمهرجانات السينما، تجمع بين الفنون والآداب»، معتبراً أن «وحدة الفنون مثل وحدة المعرفة»، وأن العلاقات بينها «عميقة ومتشابكة، وتتجلّى بوجه خاص في فن السينما». المعرض عبارة عن مجموعة لوحات لفنانة تغوص في تشعبات اللغة اللونية، كي ترسم ملامح حكايات وحالات، تعثر على امتداد لها في فيلم وثائقي يحمل العنوان نفسه للمخرجة الإماراتية نجوم الغانم، يُعرض في المهرجان.
هذا جزءٌ من خطة تحاول نفض الغبار عن مهرجان مترهّل. جزءٌ من تجديد ضروريّ، يفترض به أن يؤدّي إلى تفاعل أعمق بين النجومية والاستعراض والسجادة الحمراء من جهة أولى، والسينما كصناعة وفن وثقافة وجماليات من جهة ثانية، وشكل المهرجان ومضمونه وأهدافه من جهة ثالثة. يقول سمير فريد إن «للمهرجانات السينمائية دوراً كبيراً في الترويج لأفلام ذات طبيعة فنية، من خلال تعريف جمهور المهرجانات بها» (هناك 48 فيلماً تُقدّم في عرض أول في العالم العربي وأفريقيا، وخمسة عروض دولية أولى خارج بلد الإنتاج، وأربعة أفلام في عرض عالمي أول). المهمة صعبة. بعض التجديد بارز: إلغاء عرض فيلم في افتتاح الدورة، ونقل الاحتفال إلى قلعة محمد علي. إيجاد زاوية خاصّة بالمخرج المصري هنري بركات (1914 ـ 1997) بمناسبة مئوية ولادته، عبر تنظيم معرض تتزاوج فيه الصور الفوتوغرافية بمقتطفات من سيرتيه الذاتية والمهنية، إلى جانب إصدار كتيب أعدّته صفاء الليثي مُعدّة المعرض أيضاً، وكتاب للزميل مجدي الطيّب. إعادة العمل في برنامجي إصدار الكتب وتنظيم الندوات: الأول موزّع على شخصيات (فطين عبد الوهاب وكمال سليم وماركيز وغيرهم) وعناوين سينمائية (السينما الكوردية والسينما العربية مثلاً). الثاني مفتوح على نمطين: أحدهما «حلقة بحث» خاصّة بـ«مهرجانات السينما الدولية في العالم العربي»، والآخر ممتد على مسائل عامة، كالسينما المصرية والعالم، والسينما المستقلّة والمستقبل، والسينما والعمارة، إلخ. هذه استعادة لشيء جميل من زمن قديم. غير أن الأهم كامنٌ في جوهر الكتب والندوات وحلقات البحث، وفي مدى قدرة المضامين على إثارة أسئلة ونقاشات تؤدّي إلى محاولة جدّية لطرح أجوبة.
أما القلعة، فمشهودٌ لها بوقائع تاريخية قديمة. إطلالتها على القاهرة ليلاً أشبه برحلة متواضعة في سحر الماضي وقسوته، وفي ارتباك الحاضر وقلقه، وفي الرغبة العميقة في التطلّع إلى أمام دائماً. السجادة الحمراء تستقبل نجوماً، والمحطة التلفزيونية «نايل سينما» مشغولة بحوارات سريعة مع عاملين في السينما المصرية تحديداً، أشاد معظمهم بالرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي في كلام سياسي مسطّح، يكشف عُري قائليه من أي إدراك حقيقي لوقائع الأمور، أو من كل وعي بخطورة ما يجري حالياً في المجتمع المصري، أو من معنى الثقافة السياسية. أو ربما يشي بـ«عمق» المصالح المشتركة بين هؤلاء والنظام الحالي، أو بـ«خوف» الأولين من الثاني. كلام مملّ وعام وتبجيلي لرئيس يواجه أسئلة جوهرية في السياسة والاقتصاد والاجتماع والأمن والحريات العامة.
مغامرة
لا يُمكن التغاضي عن جرأة سمير فريد وإقدامه الفعلي على محاولة تغيير شيء ما في المهرجان. الدورة الـ 36 يُفترض بها أن تكون انطلاقة جديدة لمهرجان له تاريخ، بارتباكاته وجمالياته وتوتراته، وله حاضر يبدو أن هناك نيّة صادقة واجتهاد عمليّ لجعله فعلاً تأسيسياً آخر. اختيرت ناديا لطفي لتكريمها بإهداء الدورة هذه لها. غير أن رحيل مريم فخر الدين يُحتّم أن تكون الدورة لها. رحيل الزميل قصي صالح درويش دافعٌ إلى إهداء حلقة البحث الخاصّة بالمهرجانات العربية إليه. هذا حسنٌ. لفخر الدين حضور ومكانة على المستوى السينمائي، تماماً كما لصالح درويش حضور ومكانة أيضاً على المستويين الصحافي والنقدي، وعلى مستوى المهرجانات. لكن، يكاد الراحل خالد صالح يُنسى تماماً (وماذا عن سعيد مرزوق أيضاً، وجميعهم متوفّون في الأسابيع القليلة السابقة على انطلاق الدورة الجديدة هذه؟)، لولا صورة صغيرة الحجم له موضوعة على مدخل «السجادة الحمراء» ليلة الافتتاح. وهذا، عملياً، يُعتبر عثرة للحضور والمكانة الكبيرين له في المشهد السينمائي، لامتلاكه حيوية تمثيلية كبيرة ومؤثّرة وسجالية.
أفلام ومسابقات. ندوات ولقاءات. تكريمات واحتفالات. سهرات ونقاشات. هذا مطلوبٌ من كل مهرجان سينمائي، وهذا ما يحاول مهرجان القاهرة أن يفعله هذا العام. الصدمات التي تعرّض لها كثيرة. الانهيارات أيضاً. المصالح الضيّقة سبب لتقويضه وعزلته. الفساد المعشش في إدارات سابقة له خطرٌ على مصداقيته. سمير فريد مُقبل على معركة كبيرة. الدورة هذه هي الأولى له. حجر تأسيسي تجديدي. يستعيد شيئاً من ماضي المهرجان، ويحاول أن يضع له أركاناً جديدة. يجمع سينمائيين عرباً وغربيين كي يكونوا معاً على مدى عشرة أيام، وسط مدينة تجتهد في لملمة جراحها الكثيرة. كلمة فريد في الافتتاح مقتضبة. لا سياسة ولا تفخيم ولا تبجيل. همّه السينما. هذه ميزته. يمتلك ثقافة أوسع. هذا صحيح. لكنه كمدير للمهرجان يبدو مهموماً بالسينما. الأيام المقبلة مساحة للتأمّل أكثر فأكثر بأحوال الدورة هذه، وحيّز للمُشاهدة. النقاش السجالي اللاحق للتأمل والمُشاهدة ينطلق من حرص نقدي على مهرجان يُراد له أن يُطوّر مكانته التاريخية. سمير فريد وفريق العمل السينمائي مدركون أن ما يفعلونه مغامرة، وهم يفعلونه بحسّ سينمائي عميق.