دمشق- حلب يدخل مرحلة الانفراج فوق الألغام … الضمير السوري الذي يسكن وجداننا ويحرك إرادتنا

دمشق- حلب يدخل مرحلة الانفراج فوق الألغام … الضمير السوري الذي يسكن وجداننا ويحرك إرادتنا

سينما

الاثنين، ١٥ أكتوبر ٢٠١٨

 نهلة كامل

تخشى ألا تحقق العبارة النقدية مستوى الإتقان الإبداعي في فيلم دمشق-حلب، لكنك تكتب مشاركاً في تسجيل لقطة فنية واسعة الرؤية، تاريخية المضمون، تعيش المعاناة السورية من خلال رحلة يوم واحد، تبدأ من التراجيديا الدامية، لتصل إلى حتمية الأمل فوق ألغام متعددة الأماكن والأشكال.

رحلة في الذات السورية
فيلم دمشق-حلب، من إنتاج المؤسسة العامة للسينما، وإخراج المبدع باسل الخطيب وكتابة المتفوق تليد الخطيب، وهو فيلم العمر لفناننا الكبير دريد لحام، هو رحلة في الذات السورية التي أصبحت بعد سنوات الحرب أحد مصادر القلق من أن تكون المعاناة الفردية والجماعية قد أوصلتها إلى مرحلة التنافر الإنساني والصدام الوطني وفقدان الثقة بالآخر والتفاهم على صيغة وطنية صالحة لتوحيد الجميع تحتها.
ويبدأ الفيلم من لقطة مزدوجة الدلالة بالنسبة للصحفي المخضرم عيسى العبد الله –يجسده دريد لحام- حيث تستشهد له شابة كانت بمنزلة ابنته في انفجار القصر العدلي بدمشق أثناء عقد قرانها، بينما تكون ابنته محاصرة داخل الألغام في بيته بحلب، ولعل عمق الإحساس بالفجيعة لفقدان الأولى يجعله يهرع إلى حلب لعله يستطيع إنقاذ الثانية: ابنته.
وهكذا تبدأ الرحلة في الذات السورية، داخل حافلة ركاب تتجه إلى حلب ملأى بشتى فئات الشعب السوري الذي يبدو للوهلة الأولى متنافر الأعمار والأفكار والأشكال.
ويكون الحذر والشك في الآخر هو المزاج المسيطر على شخصيات مجموعة من المسافرين لم تتوصل بعد إلى القاسم المشترك بينها وهو الوصول الجماعي الآمن إلى حلب.
ويقدم الفيلم مجموعة من الركاب، تبدو عشوائية الاختيار، تمثل جوانب سلبية وإيجابية في المجتمع السوري، لكنه يرسم سلوكها الفردي بخصوصية وإتقان بالغ، ويجعلها مهيأة لخوض رحلة البحث عن الذات السورية، وليس من مفهوم وجوب تغيير بنيتها الذاتية دراماتيكياً، بل بالإفساح لملامحها للظهور وتحقيق هدف التعاون من أجل الخلاص، ليس من مبدأ التماثل بل الاختلاف، ولعل هذا المفهوم هو ديمقراطي متطور للمرحلة السورية الراهنة.

فسيفساء سوري
دمشق- حلب هو فيلم عن الماضي والآن والمستقبل، تجري أحداثه بسيطة وسهلة وعفوية ولكن مضمونه ملحمي لأنه يتعلق بمصير الإنسان والوطن، ويتشكل من الفسيفساء العامة للصورة السورية الراهنة.
وتخوض كاميرا باسل الخطيب تجربتها من داخل ملامح الشخصيات وذواتها، الاتجاه الذي يبرز لديه منذ بدايته في ثنائية الخريف، هذه السينما الصعبة التي تدخل الأعماق الإنسانية معبرة عن أفكارها وعواطفها ونوازعها لتأخذ أماكنها كشخصيات ناضجة في البيئة السينمائية والعامة.
هكذا تشكلت هذه الفسيفساء السورية من بطولة سينمائية جماعية بحيث أصبح التجمع العشوائي لشخصيات (ركاب يتجهون من دمشق إلى حلب) هو عملية الكشف عن الرابط الحقيقي للمواطنة التي كانت الأحداث تحاول نسفها على مدى ثماني سنوات مضت.
وهكذا جمعت شخصيات الحافلة الشأن العام إلى الخاص وهي تتكشف وتكشف ذاتها، محققة نموذجاً من السينما الصعبة يحتاج إلى دقة السيناريو في رسم الشخصيات وإتقان الإخراج في العمل على الممثل وموهبة الممثل الذي يلعب على مسرح أحداث عادية تهرول في مسار الكشف إلى قضيتها المصيرية… ولعل تلك السهولة التي أشار إليها باسل الخطيب في تنفيذ العمل هي خير شاهد على مستوى الإتقان التي حققته العمليات السينمائية التي سبقت التصوير على الأرض.
هي عمليات ناضجة من الإبداع السينمائي المتكامل قدمت لنا بالنهاية هذه المجموعة السورية في مغامرتها اليومية وشأنها الخاص إلى العام، لتكون أفضل دلالة على أن الاختلاف في المظهر أو الخلاف في الرأي لن يكون رهاناً على التشرذم والتباغض والتباعد.

على محك التجربة العامة
تخرج شخصيات فيلم دمشق – حلب من ذواتها الخاصة حين يجذبها مغناطيس قضيتها الكبرى، فتتجه رويداً رويداً من أطراف شؤونها الخاصة لتأخذ مكانها في مركز الشأن العام، أي مصيرها الملحمي بالمفهوم الإبداعي.
والرحلة التي بدأت من الريبة والشك والتخوف من الآخر، المبني على السلوك والمظهر الخارجي لرفيق الرحلة استدعت تناقضات ومواقف ساخرة كنتيجة منطقية، وعفوية للأحداث التي تعرضت إليها الرحلة، وليس بغرض تسجيل فيلم كوميدي الأسلوب، ولعلنا في دمشق- حلب يجب ألا نشير إلى تقسيمات نوعية مثل التراجيديا والكوميديا والواقعية أو الرمزية أو الرومانسية بل نركز على حالة إبداعية ناضجة جعلت المواقف تنتج أسلوب تقديمها المنطقي.
وتجسد كل شخصية من الركاب في الحافلة قضية ما، وليس هذا بقصد حصر القضايا في المجتمع السوري الراهن، بل على سبيل مثال يجعلها وهي تنصهر في تجربة التقارب والتعاون مع الآخر تكون الدلالة على إمكانية التلاقي لتحقيق هدف عام، هو هنا الوصول إلى حلب.
ونجد إلى جانب الشخصية المحورية في الفيلم الصحفي المخضرم عيسى العبد الله وسنفصل عنها فيما بعد، شخصيات أخرى مهمة المواقع واضحة الملامح تتوزع في بطولتها الجماعية. فنشاهد على المقلب الآخر شخصية صحفي شاب يجسده الممثل المبدع عبد المنعم عمايري الذي يكاد يكون النقيض في الممارسة المهنية، وهو الجاهل بأهمية من سبقه من الصحفيين ما جعل السجال بينه وبين عيسى العبد الله الرافض، بدوره لمفهوم الزمالة مع صحفي يعتبره تافهاً وسطحياً يستدعي مواقف ساخرة قبل أن تجعلهما التجربة يعترفان بأهمية وزمالة كل منهما للآخر.
وتؤدي القديرة صباح جزائري – رفاه- دوراً رومانسياً حيث تجعلها حقيقة أنها تواجه مرض الموت، وتذهب إلى مدينتها لتنتهي هناك، لكنها تقيم علاقة مشاعر وجدانية مع الصحفي عيسى العبد الله لتعطي العاطفة مفهومها الشفاف العميق في وجدان الإنسان السوري.
كما تبرز الفنانة المبدعة سلمى المصري في دور يحتل الذاكرة، رغم قصره، وهي هدى حب العمر لعيسى العبد الله الذي وقفت دونه التقاليد الاجتماعية راسمة ذلك الجرح البعيد في شخصية السوري أيضاً.
ويستدعي تعطل الحافلة في طريقها إلى حلب جملة من مواقف الشهامة والتعاون بين الركاب لإيصال عروسين إلى حلب في موعد زفافهما المسائي، فيتكشف جوهر شخصيات متعددة عن الركاب، أولهم الشابة الجميلة اعتزاز التي أدت دورها بتفوق الفنانة نظلي الرواس، التي استهجن الركاب الإثارة في شكلها وملابسها، والتي أكدت باندفعها للمساعدة أن الشهامة موجودة في الجيل الشاب، وأن الاختلاف معه بالمظهر يجب ألا يؤدي إلى مواقف عدائية تجاهه.
وتبرز مجموعة لافتة من الشخصيات في تجربة التعاون لوصول الحافلة، وهي تحتل الوطن، إلى حلب فنجد كلاً من علاء قاسم الذي يؤدي دور شاب يتصرف بأسلوب رجل أمن، وفاروق الجمعات وهو يؤدي دور رجل أمن بلباس بدوي في دورين لهما دلالتهما في المجتمع، كما تؤدي الشابة نرمين شوقي دور مطربة أوبرا تبتكر زفافاً للعروسين على الطريق العام إلى حلب والشابة ربى الحلبي في دور العروس التي استطاعت مع عريسها تحقيق زفافها في حلب بعد تعاون كامل الركاب.
ويقدم دمشق– حلب مجموعة بطولته بشكل توزيع هارموني يعطي كل شخصية أهميتها وخصوصيتها وبحيث لا يمكننا فصل مكانة الفرد عن الشأن العام مهما كان دوره صغيراً.

عن دريد لحام وللوطن
تجسد رحلة الصحفي عيسى العبد الله – دريد لحام – تلك المعاناة العميقة للوطن والإنسان السوري في رحلته إلى الخلاص، وهو ينتقل بين شابة قتلها الإرهاب وصديق يائس ينتحر في دمشق يؤدي دوره القدير ناصر وردياني، إلى ابنة تحاصرها الألغام في حلب، وتؤدي دورها بتألق الفنانة كندا حنا.
وتمثل كل خطوة من رحلة الحافلة تخطي عقبة متجذرة تركتها الأحداث المعتمة في النفس السورية من أحزان ومخاوف فردية يكشفها نور التجربة ويجعل تجاوزها ممكناً للتعاون في رسم المصير الجماعي.
وتستند شخصية عيسى العبد الله في دمشق- حلب إلى أبعاد كثيرة مثيرة للدهشة لأن الفيلم استطاع أن يختصرها في شخصية دريد لحام الذاتية والعامة والفنية، وكأن الخاص لدى دريد لحام لا ينفصل عن الذاتي الفني لدى عيسى العبد الله، ونشاهد، ربما لهذا السبب، أداءً يضيء أعماق ووجه ونظرات دريد لحام بشفافية لم تشاهدها من قبل، تؤكد مدى تماهي دريد لحام مع دوره هنا، وإن كنا اعتدنا القول في أفلام سابقة، هذا فيلم لدريد لحام، فإن العبارة ستختلف الآن ربما للقول إنه دور العمر عن دريد لحام ومنه كفنان للوطن.
إن عيسى العبد الله شخصية ملحمية تصور في سيرتها ومسيرتها وأغوارها ذلك الدأب والتصميم لخوض رحلة المصير إلى النهاية، معتمدة على جملة أبعاد منسجمة من الطيبة والعاطفية والشفافية والاندفاع والوطنية، هو باختصار الإنسان السوري الذي يسسكن أعماقنا وإيماننا ووجداننا وأملنا بأنه سيظهر دائماً في الشدة ليتقدم مسيرة الخلاص، هو إنسان المعاناة والتضحية والشهادة في آن.
وهو دور إنساني فني يجسده عادة في الأعمال الدرامية الملحمية فنانون لهم مصداقيتهم الإنسانية والإبداعية، مكرسون في الحياة الشعبية، ولهذا كان دور عيسى العبد الله يليق بفناننا الكبير دريد لحام، وهو توظيف مثالي لمواصفاته الخاصة والوطنية، وبحيث جاء ذلك الاتقان في رسم دوره المحوري مختصراً مساحات الحاضر وأبعاد الزمن ليكون بجدارة الإنسان السوري في الوجدان وعلى محك التجربة.
وتبدو شخصية عيسى العبد الله في دمشق – حلب كأنها السيرة الذاتية لدريد لحام، للأسباب السابقة، وعلى اختلافها الواقعي الشديد، لأنها تضرب على الأوتار الحقيقية للمشترك بين دريد لحام والإنسان والفنان وعيسى العبد الله في معنى العطاء الوطني خلال عقود.
دريد لحام المختلف في دمشق- حلب يحمل أوجاعه القديمة، وشجونه الحالية وعواطفه التي لا تزال خضراء في الذاكرة متعطشة إلى الحلم، كعيسى العبد الله، إنه يستعيد الزمن الجميل إلى الواقع الرديء لأنه لا يزال يحلم، فالزمن الذي يقال إنه جميل لم يكن سوى امتلاك السوري لإرادة صنع الحلم.

حتمية الأمل
يليق بفنان كبير كدريد لحام، وهو يمثل سيرة إنسانية سورية طويلة، أن يجسد لنا دوراً مهماً يفرض علينا في زمن المأساة حتمية الأمل، ربما كان هذا ما يعنيه العظيم سعد الله ونوس، وهو على وشك الرحيل بقوله الشهير: نحن محكومون بالأمل.
فيلم دمشق- حلب يبتكر سينمائياً في رسم أسلوب الأمل، في حياة كعباد الشمس، تتحرك باتجاه النور فيضيء الجانب الإيجابي من شخصية الإنسان السوري ليس لأنه لا يعاني الآن سلبيات مضاعفة، بل لأن مصير الوطن يفرض حتمية الأمل هذه، فتجعل الإيجابي فيه يتغلب على نوازع سلبية قد تصبح مدمرة، ويصبح قادراً على مد الجسور والأيادي فوق رحلة الخطر المتفجر.
إن فيلم دمشق- حلب يؤشر ويدخل بحذر إلى مرحلة الانفراج السوري لكنه يمشي فوق أرض لم تنزع الألغام منها بعد.
ويحضّر باسل الخطيب لنا، كعادته، مفاجأة النهاية، فلا يتركها نتيجة عادية، بل جامعة للخطوط الدرامية كاملة في موقف كثيف وصادم وقوي التعبير، يوحّد مصير السوريين في نهاية تليق بملحمة وكأن عيسى العبد الله – دريد لحام هو ضمير الإنسان السوري الذي يواجه قدره بقناعة وشجاعة، حين يصل إلى ابنته المحاصرة في حلب، ويختار أن يمشي إليها فوق الألغام مهدداً بانفجار محتمل في أي خطوة، لكنه يتجاوز الخطر ويحضن ابنته لنشاهد أحد أجمل النهايات في السينما السورية والراهنة، ولنجد أنفسنا جميعاً محبوسي الأنفاس نبكي بغزارة قبل أن نتنفس الصعداء.
فالسوري محكوم بالتضحية مثل الأمل، وفيلم دمشق – حلب الذي ابتدأ بالشهادة ينتهي بعظمة هذه الشهادة حين تكون قراراً ذاتياً، ويرى في عيسى العبد الله شهيداً سواء انفجرت الألغام تحت قدمه أم لا، فالشهادة في المأساة السورية قدر واختيار وربما هذه هي دلالة الملحمة في فيلم دمشق – حلب.
بالنسبة لي أجد أن عبارتي قد لا تصل إلى مستوى الإتقان في فيلم دمشق- حلب وذلك لسبب بسيط هو أن الضمير والمشاعر والأحاسيس تستطيع أن تعبر عن دمشق – حلب بأسلوب أكمل وأطول.