«مولانا» الفيلم الذي يفضح التلاعب السياسي برجال الدين

«مولانا» الفيلم الذي يفضح التلاعب السياسي برجال الدين

سينما

الأحد، ٢٩ يناير ٢٠١٧

 في واحد من مشاهد فيلم «مولانا» - أحدث عمل سينمائي من توقيع المخرج المصري مجدي أحمد علي - يقول أحد شخوص الفيلم بوضوح ومباشرة أن «رجال السلطة يتلاعبون بالشيخ حاتم الشناوي الداعية الإسلامي - بطل الفيلم الذي يُجسد دوره عمرو سعد - المتقدم في أفكاره والذي يُمثل نموذجاً لتجديد الخطاب الديني وفق تصور صُناع العمل، حيث يحاول رجال الدولة استخدام الداعية لخدمة مصالحهم، وحينما يتمرد عليهم يُقررون أن «يفعصوه»...». فهل المعالجة الدرامية في العمل تتسق أم تتناقض مع هذا الحوار الخطابي؟ وما طبيعة هذه المصالح؟

 

حكاية اعتناق وإقناع

تتمثل مشاكل هذا الداعية مع النظام، بالفيلم، في أمرين لهما علاقة مباشرة بابن رئيس الدولة. الأول، أن حسن الأخ الأصغر لزوجته - ابنة رجل الأعمال الشهير - قرر أن يتنصر (أي يتحول للمسيحية) وبما أن هناك خوفاً من انتشار الخبر وإثارة المتطرفين الفتنةَ بكل توابعها، يُطلب من الشيخ الداعية صاحب البرنامج التلفزيوني الشهير أن يحاول إقناع حسن – الذي يقوم بدوره أحمد مجدي بإجادة اللفتات والإيماءات وتعبيرات العيون في حدود دوره -، خصوصاً أن الأخير يُتابع برنامجه باهتمام، والشيخ حاتم بدوره لا يدخر جهداً مخلصاً في محاولة إقناع حسن واحتوائه بشتى الطرق ومنها اللين والشدة، والحزم وطرح الحجج عبر نقاش مستنير يجعل الشاب المراهق تائهاً مرتبكاً في بعض الأحيان. وحتى عندما يتحول حسن بقدرة قادر، ودون أي منطق، أو سبب مقنع إلى متطرف موتور ضد المسيحية وذلك بعد أن كان على استعداد للدخول في حرب شعواء مع المجتمع كله من أجلها وبعد تبرعاته بمبالغ طائلة لها فينتهي به المطاف إلى تفجير الكنيسة الشهيرة من دون علم أهله.

والدراما هنا تُبرئ أركان النظام من التلاعب بالدين، وتغسل يديه من دماء وجرائم – ومنها تفجير كنيسة القديسين - أثبت الكثير من المحللين السياسيين أنه كان وراءها لتوجيه أنظار الرأي العام وإلهاء الشعب عن قضايا الفساد الحقيقية ولغرس الخوف في قلوب أفراده من غياب الأمن. مثلما برأ كاتب السيناريو رجال الأمن – في عهد مبارك وفق الإشارات والدلالات الرمزية - من أزمات التنصير أو إسلام بعض المسيحيات، أو إشعال نيران الفتنة الطائفية، فهم كانوا مجرد مباركين لإسلام الفتاة التي هربت من عنف والدها السكير، أو مُحاولين حصار نيران التطرف بالقبض على مجموعة من الشباب المتنصرين، باللجوء للشيخ حاتم لإقناعهم بالعدول عن أفكارهم، لكنه لن ينجح.

أما الأمر الثاني فيتعلق برجال الطرق الصوفية وخصوصاً كبيرهم الشيخ مختار الذي يُجسد دوره بمهارة رمزي العدل رغم أنه الظهور الأول له، والذي يُعاني مع أهله اضطهاداً ممنهجاً مدروساً على أيدي رجال الدولة بمعاونة السلفيين ودعمهم، وقد بلغ الاضطهاد حرق منازلهم وتعذيبهم. ويُرجع السيناريو سبب الاضطهاد إلى أن أحد رجالهم كان يتلقى علاجاً في مصحة بالخارج مع ابن الرئيس الذي كان يُعاني من نوبات صرع، وأن الشاب الصوفي لما عاد لمصر اتصل به ليذكره بأنهما كانا معاً بالمصحة، فخشي ابن النظام على صورته وقرر أن ينتقم منه ومن عشيرته كلها ملصقاً بهم كافة أنواع التهم وفي مقدمها التشّيُّع، مستعيناً برجال التيار السلفي، وتواطؤ وزير الأوقاف، ودعم رجال الأمن. مثلما يتم الضغط على الشيخ حاتم وابتزازه ليتحدث بشكل سيئ عن أهل الصوفية على الهواء مباشرة. هنا، يُصور صناع الفيلم الانتقام على أنه من أجل مصلحة شخصية بحتة، منزوعاً عنها أي صراع حقيقي أو شُبهة فساد سياسي أو اقتصادي مارسه أبناء ورجال النظام السابق، فهل هذا صحيح؟! وهل تُصبح تلك الإدانة ذات ثقل أو قيمة عند المحاكمة التاريخية؟

 

ارتباك السيناريو

اعتبر البعض أن تفجير حسن الكنيسةَ هو إدانة لنظام مبارك، لكنه رأي مغالط وشديد السطحية، فهذا المشهد – مثله مثل سابقه - ببنائه المُفرغ من أي قيمة وعمق حقيقي، يعمل على تزييف الوعي، وتلفيق التاريخ، وتشويه الحوادث والأسباب الحقيقة وراء عدد من الأزمات الكُبرى التي وقعت في عهد الرئيس المخلوع، فهناك فرق بين أن يتم التفجير عن عمد – بفعل وتخطيط رجال النظام - لإلهاء وإشغال الرأي العام عن المشاكل والقضايا الحقيقية وبؤر الفساد، وبين أن يقوم بالتفجير شاب متهور موتور متطرف فكرياً وفق أهواء فردية شخصية بحتة. هنا، الفيلم لا يُدين، ولكن يُبرئ ساحة النظام السابق من التهم الموجهة إليه، ويغسل يديه من دماء جرائمه.

إضافة إلى ما سبق، يُعاني السيناريو ارتباكاً وقصوراً واضحاً، فالخصوم لم يتمتعوا بالقوة المنافسة لمولانا، ليس هناك من مبارز حقيقي فكأن الشناوي وحده الخطيب المُفوه القادر دوماً على هزيمة كل خصومه، ومنهم الشيخ المُنكل به صاحب فتوى إرضاع الكبير، وحسن الجاهل الذي لا يفقه شيئاً في أمور الدين، والمذيع الذي تم تهميشه تماماً، وجلس منكمشاً على نفسه، واختفى طويلاً، فتم تسطيح دوره بعكس الرواية، واقتصر توظيفه عند الحكي المباشر عن ضرورة أن يكون حاتم أداة في أيدي رجال الدولة. كذلك لم ينجح السيناريو في رسم شخوصه وفق تطورها النفسي الطبيعي، فمثلاً إذا كان تأرجح مواقف الشيخ حاتم ونذالته مع أقرب أصدقائه يمكن تبريرها بأنه بشر وله نقاط ضعف، فإن ما لا يمكن تفسيره مثلاً أن الجمهور المهووس به والراغب في التقاط صور معه كان السبب الرئيسي لسقوط ابنه في حمام السباحة – في مشهد ضعيف تنفيذياً - وإصابته بالغيبوبة، إذ مع ذلك فإن علاقة الأب الملتاع والداعية بجمهوره لم تتأثر نفسياً على الإطلاق، ولم ينتابه ولو لمرة واحدة هذا الشعور البغيض بأنهم كانوا سبباً في تعرض ابنه للموت بعد أن تمناه سبع سنوات، وكانت روحه معلقة في روحه، فأين علم النفس؟ وكيف تقتصر مشاهد تذكر الابن على الشقة فقط؟ ولماذا تصالح مع جمهوره تماماً؟

من عيوب بناء الشخصية في «مولانا» أيضاً - وهي مشكلة بدأت في السرد الروائي أصلاً -، أن الشيخ حاتم يبوح بسهولة بعيوبه، والحقيقة أننا أثناء القراءة لا نشعر بأن هذا رأي حاتم في نفسه بقدر ما هو تحليل المؤلف له، فالمؤلف يتحدث بالنيابة عنه على لسانه، فنجده يتحدث بسهولة عن أخطائه وعيوبه ليس فقط مع الشيخ مختار الصوفي، ولكن أيضاً مع ابن الرئيس، مع حسن/ بطرس، مع نشوى الفتاة التي سلطها عليه أمن الدولة لتوريطه أخلاقياً. ومع ذلك – وبعكس الرواية – تم تصويره كملاك استطاع مقاومة المرأة ولم يسقط في الرذيلة.

رغم ما تكشف من مشاكل سردية وغياب البناء الفني التلقائي المقنع للشخصيات والذي تستر عليه ثراء الأفكار وتنوعها وزخمها، فإن المقارنة بين الرواية والفيلم، ورغم أن كليهما جنس فني مختلف وله أدواته، ستكون لمصلحة الرواية، سواء في النهاية وفي الأخطاء التي وقع فيها الأبطال خصوصاً الزوج والزوجة والآثام التي ارتكباها والتي استبعدها الفيلم. أما أجمل التفاصيل الصغيرة التي بُترت من فوق الشاشة وكان لها مدلول نفسي فمنها مثلاً عندما أصيب الطفل بالغيبوبة لم يحتمل الأب الخبر، وفرّ هارباً، مُهيناً نفسه بتنظيف الحمامات، وهو مشهد مقتبس من حديث للشيخ الشعراوي كان يُعبّر فيه عن محاولات إذلاله لنفسه عندما كان يزوره الغرور أو يشعر بالتكبر، لكن مخرج الفيلم – أو ربما بطله - استبعدا مشهد تنظيف الحمامات ومسح بلاطها بكل ما فيه من قوة تعبيرية على إذلال النفس، ليصنعا مشهداً بديلاً شديد الركاكة على المستوى التعبيري والأدائي إذ نرى – من زاوية منخفضة – الشيخ حاتم بزي رث جالساً على أحد الأرصفة يتناول الكشري ملعقة تلو الأخرى وهو يُمثل الحزن والشرود.

غير صحيح بالمرة أن «مولانا» ليس فيلماً تجارياً، فهو خلطة تجارية مختلفة، هو عمل أقرب إلى برنامج تلفزيوني ديني يعتمد في جزء كبير منه على الفتاوي المثيرة للجدل التي تستحوذ على نسبة مشاهدة عالية، فلو أفرغناه من الفتاوي لما بقي به شيء ذو بال، وأحد العوامل الجوهرية التي اعتمد عليها المخرج في «خداع» الجمهور وعدم منحه فرصة للتفكير في ما يقال أمامه كان كثرة الفتاوي المتلاحقة المثيرة مثل حديث إرضاع الكبير، وحكاية زينب بنت جحش، وفض الاشتباك بين الأبوة والتبني، والتشكيك في بعض أحاديث البخاري، واتهامات للمعتزلة وتفسيرات جانبية ينقصها النقاش المستقيم عن حرية المرأة والمساوة في الإسلام، وفتاوي التمثيل والفروق بين النخاسة والقوادة في عالم الفضائيات. أما العناصر التي منحت تلك الفتاوي مزيداً من الجاذبية، فأولها أداء عمرو سعد الذي رغم أن كثيراً من مشاهد الضحك جاءت مفتعلة أقرب «للاستظراف» من خفة الظل، لكنه برع في ارتداء عباءة الفنان أحمد زكي في الأداء بكل إيماءاته وإشاراته الجسدية، لفتاته، أسلوب الضغط على الحروف، حركات العيون، والأهداب، طريقة الصمت، وتحريك الرأس، مع مزيج من إيماءات الفنان نور الشريف، خصوصاً في ظل شريط المؤثرات السمعية المميز بتوظيف الآيات الدينية بصوت الشيخ محمد رفعت، والتواشيح الدينية، والأغاني الصوفية، ومنها: «حطيت على القلب إيدي وأنا بأودع وحيدي» من أغنية أم كلثوم، «الأوله في الغرام» (كلمات بيرم التونسي وألحان زكريا أحمد). يُضاف لما سبق الحوار الرشيق - كتبه إبراهيم عيسى مؤلف الرواية المقتبس عنها الفيلم - الذي يتلاعب بالأفكار الدينية من دون أن يناقش أو يمسّ قضايا اجتماعية أو سياسية حقيقية، لتكون المحصلة فيلماً يُوازي برامج «التوك شو» التي تُلهي الناس وتشغلهم بكل ما على السطح فتأخذهم لمنطقة الدين وفقط بمعزل عن مشاكلهم الحقيقية.

 

النهاية السعيدة والتناقض

بعيداً عن النهاية السعيدة المستفزة لافتقادها المنطق والإقناع لأنها نقيض الواقع تماماً، حيث يتـــمتع الشــيخ حاتم بجرأة وإقدام على تحدي النظام الذي يستسلم له دون أدنى مقاومة أو رد فعل، فإن نهاية حسن/ بطرس وتطرفه وتبدله للنقيض تماماً تقول بوضوح أن ادعاءات صُناع الفيلم بضرورة تجديد الخطاب الديني من أجل إصلاح المجتمع ليست هي الحل، فالدراما في الفيلم تقول العكس؛ ألم يحاول الشــيخ حاتم مع حسن/ بطرس مراراً وتكراراً؟ ألم يكن حسن منبهراً بالشيخ حاتم ويبدو أن كلامه يــخاطب شيئاً في أعماقه؟ فلماذا لم يتأثر به حسن بينــما استــجاب لأفكار المتطرفين؟ لماذا لم يتراجع عن فكرة التنصير رغم كل الحجج المنطقية وروح المحبة التي أبداها لها الداعية المستنير؟ لماذا عوضاً عن ذلك انساق وراء الأفكار المتطرفة وأصبح إرهابياً؟ أليست هذه دلالة رمزية تشي بعدم جدوى تجديد الخطاب الديني؟ أم هي رغبة صُناع العمل في غرس مزيد من الحوادث والإثارة؟ أو ربما هو عدم القدرة على قول الحقيقة والخوف من الرقابة فكان الالتفاف على الوقائع والحوادث التاريخية بإبراء ذمة النظام وإلصاق التهمة بالشاب حسن؟

ما سبق يجعلنا نستدعي تصريح بطل الفيلم عمرو سعد بأن: «الهاجس الرئيسي لدى الناس في مصر هو فهم الدين في شكل خاطئ، وأنا أرى أن «جميع» مشاكل المجتمع من السهل حلها عندما يتم حل مشاكل الفهم الخاطئ للدين»... فهل يقصد سعد أنه سيتم حل مشاكل التعليم والصحة، والزراعة والصناعة، وأزمة نقص المياه وتلوث الطعام، والقضاء على الفساد، وإنقاذ الاقتصاد المنهار، والجنيه المترنح، وسيتم رفع مستوى معيشة الإنسان المصري المنكوب عندما يتم حل مشاكل الفهم الديني الخاطئ؟!