«بانتظار الخريف»... وعد بقيامة سورية

«بانتظار الخريف»... وعد بقيامة سورية

سينما

الخميس، ٢٤ ديسمبر ٢٠١٥

وأخيراً، قدّم جود سعيد فيلمه «بانتظار الخريف» في عرضٍ خاص أقيم في دمشق الخميس الماضي. مآسي الحرب السوريّة، وانعكاساتها على البسطاء كانت حاضرة بقوّة في «بانتظار الخريف». افتتح الشريط بمشاهد الدمار، والقتلى، والتمثيل بالجثث، التي أراد لها جود سعيد أن تشكّل رؤيا من البرزخ لمخرج (يؤدي دوره الممثل كامل نجمة) اعتقله مسلحون على أحد حواجزهم في أحياء حمص، حين غامر بحياته مدعيّاً أنه عسكري، كي ينقذ حياة ضابط يستقل معه الحافلة ذاتها (جسّد شخصيته جود سعيد)، ويكتشف المسلحون لاحقاً خداعه لهم، لكنّهم فازوا بصيدٍ ثمين بإمكانهم استثماره لاحقاً، فهو مخرجٌ معروف وله فيديوهات شهيرة.

هذا ما تكتشفه امرأة تونسية يظهر من تصرفاتها، أنّها تمتلك تأثيرها القوي على المسلحين.
يوضح سياق الفيلم أنّ المخرج المحسوب على المعارضة، وشارك في بداية الحراك الاحتجاجي في سوريا انكفأ على ذاته، مع سيطرة فوضى السلاح، واكتفى بإبقاء كاميراته منصوبةً، ترصد عبر شباك منزله حركات زوجته «حلا» (ربا الحلبي) في ذهابها وإيابها إلى حارته المدمرّة، بينما يتربّص بها قنّاصٌ في الطرف الآخر كان مصور أفراح، تغيّرت وجهة عدسته.
حادثة الخطف تتم بينما كان (الزوج/ المخرج) يذهب لحضور مباراة لفريق زوجته في كرة الطائرة. فريقٌ يضم فتيات سوريّات مأزومات بسبب الحرب، وكلهن ينتظرن الحب، ويناورنه، ويحلمن بلحظة فرح تجمعهن بشريك العمر.
«نبال» (سلاف فواخرجي) مسؤولة الفرقة الحزبية، وبطلة كرة الطائرة السابقة، مديرة المدرسة في القرية، وماكينة الروح المعنوية فيها؛ تبقى وفيّة لحبيبها «أبو غازي» (عبد اللطيف عبد الحميد) وهو ضابط متقاعد، منعها والدها من الزواج به بسبب اختلاف الدين. ولا يوفر الحبيبان الفرصة لتبادل الغزل على نحوٍ طريف حتى في أصعب الأوقات.
الشخصيّة التي تقدّمها النجمة السوريّة، مدهشة، وجديدة تماماً بالنسبة إلى مسيرتها من حيث اللهجة والشكل، فـ «نبال» ذات المؤخرة الضخمة جداً، لا تجد صعوبة في المضي قدماً إلى الأمام، ولها القدرة بما تمتلكه من طاقة حب وإيجابية، على تجاوز الأزمات، والتعاطي مع الآخر، حتى حواضن المسلحين الذين يكنون لها الحب والتقدير كمدرسّة، وتتمتع بعاطفةٍ كبيرة، وطرافةٍ تجعل من الخطب التي تلقيها رغم لغة الشعاراتية (المستوحاة من دروس القومية الشهيرة)، بمنتهى العذوبة. كذلك تظهر اتصالاتها مع «مكارثي» السيناتور الأميركي الافتراضي، مطالبةً إيّاه بدفع زملائه للتصويت في الكونغرس، ضد التهديدات الأميركية بضرب سوريا مطلع شهر أيلول (سبتمبر) 2013.
الشريط صوّر خلال تلك المرحلة، وتناول على نحوٍ ساخر طريقة تفاعل السوريين مع ما تم تداوله عن موعد الضربة الأميركية، عبر وسائل الإعلام الإعلامية، ومواقع التواصل الاجتماعي، التي طالتها سياط النقد اللاذع من جانب صنّاع الفيلم، وعلى ألسنة أبطاله الذين كالوا الكثير من الشتائم للموقع الأزرق، رغم عدم استغنائهم عنه.
«بانتظار الخريف» تطرّق للتزييف الإعلامي الذي لا يتوقف عن صب الزيت على النار في سوريا، ولعل المشاهد التي يظهر فيها «أبو غازي» وهو يتابع أخبار انشقاقه المزعوم عبر المحطات العربية والعالمية، ما دفعه لتحطيم التلفزيون؛ يقدّم خلاصة مقولة الفيلم في هذا السياق. طبعاً، سيضطر الجنرال السابق لعقد مؤتمر صحافي بضغطٍ من صديقه الضابط «أبو لمى» إلى نفي الخبر في مشهد لا يخلو من الحس الكوميدي.
ينتقد الفيلم بطريقة ساخرة أيضاً ممارسات بعض المستفيدين على الحواجز الأمنية، والمستغلين، تجّار الأزمة، وما يعرفون شعبياً بـ «ضريبة التقارير». لكن قد يؤخذ عليه في المقابل تقديم سلوكيات الفصائل المسلّحة، وأسلوب تفكيرهم ضمن إطارٍ كاريكاتوري، كأشخاصٍ سطحيين، يتلقون الأوامر من الخارج فقط، ويخرق هذه الصورة احتفاء شاب منهم (يؤدي دوره سيمون صفيّة) بالمخرج المخطوف، وعنايته به.
أحداثٌ ساخنة، وصادمة، تخفف من مرارتها طرافة معظم الشخصيّات التي تتسّم غالبيتها بالبساطة التي تنعكس على سلوكياتها، وتعاطيها مع قسوة ما تعيشه، متكئةً على شعاراتٍ تطمئن لها، وآمال تقنع نفسها بحتمية تحققها. وحيلٍ ساذجةٍ يلجأ إليها شخوص الشريط إليها لمحاولة اقتناص مكسبٍ ما، أو الإثبات لمحيطهم بأنهم يسيطرون على الموقف، مخفين بذلك خيباتٍ كبيرة، ومخاوف عميقة، مع ميلٍ فطري للحب والسعادة. ورغم سوداوية الوضع الإنساني الذي يصوّره فيلم «بانتظار الخريف» باحترافيه، إلا أنّ مشهد الختام يعد بقيامة سوريا.
جود سعيد اعتبر في تقديمه للفيلم على منصّة العرض أن فوزه بجائزة «مهرجان القاهرة» الأخير كأفضل فيلم عربي «نوعاً من إعادة الحق»، بعد مقاطعة فيلمه السابق «صديقي الأخير» في المهرجانات العربية، على خلفية المواقف السياسية من صنّاعه. وتوجه للجمهور الحاضر في الصالة قائلاً: «وجودكم اليوم يساوي هذه الجائزة». وقال عبد اللطيف عبد الحميد إنه فرح بالجائزة أكثر من كل التكريمات والجوائز التي فاز بها في مسيرته السينمائية، منوهاً إلى «الهجوم والاضطهاد» اللذين تعرضّ لهما مع جود في المهرجانات السينمائية العربية خلال السنوات الأخيرة.
«بانتظار الخريف» (سيناريو جود سعيد بالشراكة مع عبد اللطيف عبد الحميد وعلي وجيه، إنتاج المؤسسة العامّة للسينما، وآدمز برودكشن)، ويضم على قائمة أبطاله أيضاً: بشار اسماعيل، علاء قاسم، سوزان سكاف، رنا ريشة، غفران خضور، لمى بدور، سارة سليمان، مصطفى المصطفى، حسين عباس، كرم شعراني، ناصر مرقبي، غابرييل مالكي، يامن سليمان، محسن عباس، وآخرين.