الغرب يهمل المبادرة الصينية: فلْتستمرّ الحرب... إلى ما لا نهاية

الغرب يهمل المبادرة الصينية: فلْتستمرّ الحرب... إلى ما لا نهاية

أخبار عربية ودولية

الثلاثاء، ٢٣ مايو ٢٠٢٣

لا أفق ديبلوماسيّاً للحرب الروسية - الأوكرانية؛ هذا ما يوحي به موقف الغرب عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً، من هذه الحرب، والذي تمّ تظهيره أثناء قمّة «مجموعة السبع». إذ تجاهَل قادة المجموعة، بصورة تامّة، «المبادرة الصينية»، مجدّدين، في المقابل، الالتزام برفد كييف مالياً وتسليحياً. وفي موازاة الإصرار على إطالة أمد الأزمة، وعدم تهيئة الأرضية لمحادثات يمكن أن تفضي إلى حلٍّ بالتراضي بين الجارتَين، تتحضّر أوكرانيا لإطلاق «هجوم الربيع» الذي قد يطول هو الآخر، فيما تشتغل محرّكات الديبلوماسية الصينية «في الهواء»، في انتظار اختراق لا يزال يبدو بعيداً
على وقْع تضارب التقديرات الغربية حول موعد انطلاق «هجوم الربيع» الأوكراني، أعادت بكين تشغيل محرّكاتها الديبلوماسية على طريق وقْف الحرب، عبر إيفاد مبعوثها الخاص لشؤون أوراسيا، لي هوي، في جولة خارجية شملت كلّاً من موسكو وكييف، وعواصم أوروبية أخرى من بينها باريس ولندن. وبقدْر ما بدت جولة المبعوث الصيني، أواسط الشهر الجاري، أشبه بـ«المهمّة المستحيلة» في ظلّ رفض أوكرانيا، ومن خلفها الغرب، وقْف الحرب لأسباب تتعلّق أساساً بمحاولة استنزاف روسيا قدْر المستطاع، من ناحية، وتمسُّك الأخيرة بصيغة تسوية هي أقرب إلى إخضاع جارتها الجنوبية، من ناحية ثانية، بقدْر ما عكسَ حَراك بكين ثقة متزايدة بدورها على الساحة الدولية، وعزْمها طرْح نفسها كـ«قوّة عظمى ديبلوماسية». على أن هذه المهمّة تظلّ محفوفة بالمخاطر السياسية والاقتصادية، والتي يبدو أن زعيم البلاد، شي جين بينغ، متردّد في تحمّلها، وفق مصادر غربية، توضح أن الدولة الآسيوية الكبرى تسير على خيط رفيع ما بين مراعاة الرفض الدولي للعمليات العسكرية الروسية، وما بين دعم أحد أقوى شركائها.
ويأتي الحراك الصيني المتجدّد في أعقاب جولة أوروبية للرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، قادته إلى إيطاليا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا، وتخلّلتها تعهّدات بتوريد المزيد من الأسلحة إلى كييف، وأنبأت بإصرار أوروبي - أميركي على أولويّة تحقيق مكاسب ميدانية من جانب القوات الأوكرانية. أيضاً، يجيء نشاط بكين بعد صدور قرار عن البرلمان الفرنسي باعتبار المجاعة التي ضربت أوكرانيا خلال الحقبة السوفياتية - وتحديداً في عهد ستالين - «إبادة جماعية»، وهو ما انطوى على محاولة لاستثمار العامل التاريخي في تأليب الرأي العام الأوكراني وتعبئته ضدّ «الجار الشمالي»، ومن ثمّ تعميق الهوّة بين البلدين، سواءً من أجل تدعيم السقف العالي لحكومة زيلينسكي إلى أن تحين لحظة التسوية، أو رغبةً في تفكيك الروابط الثقافية بين كييف وموسكو - وما أكثرها -، وربّما ليُصار لاحقاً إلى تعميم ذلك «النموذج العلائقي» على مستوى علاقات روسيا مع دول الفضاء السوفياتي. وهذا ما يحيل إلى المنطلقات الثقافية للمواجهة، والتي غالباً ما كانت تُشير إليها تصريحات المسؤولين الروس تحت عنوان «الروسوفوبيا»، كدلالة على النوايا العدوانية المبيّتة ضدّ بلادهم.
تشكيك غربي بالديبلوماسية: الميدان أَولى من الحوار
ما سبق، يُرخي بظلاله على الأفق الديبلوماسي للأزمة الأوكرانية، ويقلّص من حظوظ أيّ مقترحات تفاوضية لحلّها على غِرار المبادرة الصينية المطروحة، والمكوّنة من 12 نقطة. وتجلّى الموقف الغربي، المستهين بالمبادرة في خلال قمّة «مجموعة السبع» (G7) التي انعقدت في هيروشيما اليابانية، حيث جرى تجاهل مقترح بكين بصورة تامّة لصالح تجديد الالتزام بتزويد كييف بالدعم المالي والعسكري، فضلاً عن تبنّي مقترحات تصعيدية تجاه الصين، كالتعهّد بـ«تقليص الاعتماد على التجارة» معها. تأسيساً على ذلك، أشارت صحيفة «نيويورك تايمز» إلى أن «المسؤولين الأميركيين لا يزالون حذرين إزاء أيّ دعوات لوقف إطلاق النار أو عقْد محادثات سلام فوريّة بين طرفَي النزاع، بخاصّة تلك المقترحة صينيّاً»، كاشفةً أن بعض المسؤولين الأوروبيين أيضاً، ممّن سبق وأن التقوا ديبلوماسيين صينيين، «أظهروا شكوكهم» في جدوى المسار التفاوضي في الوقت الراهن. ولفتت الصحيفة الأميركية إلى أن «الهجوم الأوكراني المضادّ طغى على جدول أعمال القمّة»، مستدركةً بأنه «من غير الواضح كيف سيحدّد المسؤولون الغربيون معايير نجاح هذا الهجوم الذي قد يستمر لأشهر عدّة، أو كيف يمكن أن تؤثّر نتائجه على مقاربتهم (للأزمة)، وسط تباين واسع في الآراء في أوساط الاستراتيجيين العسكريين (الغربيين) حول مدى أرجحيّة أن تستعيد أوكرانيا أراضيها».
وبخصوص موقف واشنطن تحديداً، ذكرت «نيويورك تايمز» أن مسؤولي الإدارة الأميركية ينظرون إلى موقف الرئيس الصيني، شي جين بينغ، باعتباره «ينطوي على ازدواجية في التعاطي»، ويعتبرونه أشبه بالنهج الديبلوماسي المتّبع من قِبَل بلاده حيال الملفّ النووي الكوري الشمالي، والقائم على دعوة بيونغ يانغ إلى التخلّي عن طموحاتها النووية، توازياً مع مواصلة مدّها بالطاقة، ومنتجات أخرى لتخفيف آثار العقوبات الأمميّة عليها. أمّا بشأن موقف بروكسل، وعلى رغم اهتزاز العلاقات الأوروبية - الصينية، فإن الصين لا تزال تعوّل على نقاط تفاهم مشتركة مع بلدان الاتحاد الأوروبي، من أجل محاولة التوصّل إلى حلّ سلمي للأزمة خلافاً لرغبة الولايات المتحدة، وهو ما بيّنته زيارات رسمية قام بها زعيما البلدَين إلى بكين في الأشهر الأخيرة، وأَظهرا فيها تمسّكهما بالعلاقة مع ثاني أكبر اقتصاد في العالم. كذلك، تجلّت النزعة الأوروبية المتمايزة في اعتبار الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، حرب أوكرانيا بمنزلة تدمير منظَّم لأوروبا، ودعوته نظراءه في الاتحاد الأوروبي إلى التصرّف وفق ما تقتضيه مصالح التكتُّل، وليس وفقاً لمصالح الآخرين.
 
لغز المبادرة: ماذا تريد بكين؟
على رغم تسلُّحها بإنجازها الديبلوماسي حديث العهد، والمتمثّل في «اتفاق بكين»، إلّا أن نجاح مبادرة الصين في شأن أوكرانيا، دونه عراقيل كثيرة، في طليعتها الموقف الغربي الناقد والمشكّك. وهو موقفٌ يأتي، للمفارقة، بعدما كان الغرب، قبل أشهر قليلة فقط، يعيب على الديبلوماسية الصينية غيابها عن مسرح الحرب، متّهماً بكين بتقديم دعم اقتصادي لموسكو، وبالسعي إلى رفدها بالأسلحة، وحاثّاً الأولى على توجيه إدانة مباشرة للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وذلك بهدف إحراجها، وتعكير صفو علاقاتها بروسيا على حدّ سواء، وصولاً إلى ترويج مزاعم حول نيّة الصين دعْم وقفٍ لإطلاق النار بدافع رغبتها في إعطاء فرصة لحليفتها لالتقاط الأنفاس وإعادة تجميع قواتها. والظاهر أن هذا النهج الغربي مستند إلى ما أظهرته الصين من مواقف تراوحت إلى الآن بين الحياد، وهو ما تجلّى في امتناعها عن التصويت على مشروع قرار اقترحته الولايات المتحدة خلال الأسابيع الأولى من الحرب لإدانة روسيا في مجلس الأمن، فضلاً عن رفْضها طرْح قرار مماثل خلال فعاليات «قمّة العشرين» في إندونيسيا العام الماضي، وبين التأييد المطلَق لموسكو حين رفضت قراراً صادراً عن «محكمة العدل الدولية» يدعو روسيا إلى وقْف عمليّتها العسكرية في أوكرانيا.
كذلك، يتعلّق الأمر باعتبارات استراتيجية خاصّة ببكين، لا تشجّع على القبول بالمبادرة الصينية غربيّاً. فمن وجهة نظر عدد من الدوائر الأكاديمية والسياسية الأميركية، فإن الصين تصبّ جهدها في الترويج لتسوية للحرب الأوكرانية، يكون من الممكن إسقاطها مستقبلاً على الوضع في تايوان، في حال نشوب أيّ نزاع محتمل هناك. وهذا ما يورده الباحث المتخصّص في الشؤون الصينية لدى «مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات»، كريغ سينغلتون، معتبراً أن «خطّة السلام الصينية ليست موجّهة نحو هدف استعادة السلام في أوروبا، أو إنهاء الحرب في أوكرانيا، بقدر ما تتمحور حول تهيئة الظروف الملائمة لكسب حرب مستقبليّة ضدّ تايوان»، داعياً إلى المزيد من التشدّد حيال الصين. ويرى الباحث في المؤسسة ذات الميول الصهيونية، أن بنود الخطّة «تعكس مخاوف الصين في شأن الظروف (السياسية والاقتصادية والعسكرية) المحيطة بالمعركة الدائرة في أوروبا» على أكثر من صعيد، سواءً لناحية ما أَظهرته من وحدة الموقف الغربي، أو لناحية ذهاب الغرب إلى تبنّي إجراءات عقابية غير مسبوقة ضدّ روسيا. ويلمّح إلى أن تضمين المبادرة بنوداً من قَبيل «التخلّي عن عقلية الحرب الباردة»، و«سياسة المحاور»، يستبطن مطلباً صينياً بـ«إضعاف قدرة الأطراف الدولية على خلق تحدّيات استراتيجية»، إضافة إلى محاولة «استغلال التباينات بين حلفاء واشنطن»، في إشارة إلى رهانات صينية على ضعضعة وحدة حلف «الناتو» بخصوص الدعم العسكري لكييف. ويضيف سينغلتون أن «التصوّر الصيني المشار إليه، قابل للتطبيق على الوضع في تايوان في حالات الطوارئ؛ ذلك أنه في حال وقوع أيّ مجابهة بين تايوان والصين، فإن الأخيرة ستحقّق، وفقاً لهذا التصوّر، نصراً يسيراً». ويتابع أن البنود المتعلّقة بـ«وقف العقوبات الأحادية» ضدّ روسيا، وضرورة «الحفاظ على استقرار سلاسل التصنيع والإمداد»، توحي بوجود خشية صينية استباقية من إمكانية الوقوع تحت طائلة العقوبات نفسها في أيّ نزاع مع دول الحلف في المستقبل، قبل أن يخلص إلى أن بكين «تدرك أن الأسباب التي تدفع إلى فشل روسيا في أوكرانيا، هي نفسها الأسباب التي تهدّد خطط الصين لإعادة توحيد البلاد» عبر ضمّ تايوان.
هكذا، يبدو الغرب مصرّاً على إطالة أمد الصراع في أوكرانيا لاستنزاف روسيا، ومحاولة استعادة جزء كبير من الأراضي التي سيطرت عليها الأخيرة، وهو أمر يدرك استحالة تحقُّقه، علماً أن الإدارة الأميركية منقسمة على نفسها بين وزارة الدفاع التي تفضّل حلاً ديبلوماسياً، ووزارة الخارجية التي تتبنّى نهجاً أكثر «صقورية». كذلك، ربّما يكون الغرب في وارد القبول بتسوية تطرحها الصين، ولكن ضمن شروط غير واقعية، كأن تتضمّن انسياق بكين خلف إرادة ما يسمّى «المجتمع الدولي» ضدّ موسكو، بوصْفه شكلاً من أشكال محاولة تغيير السلوك الخارجي للصين، أو أن تفرض بنوداً على روسيا لإعادة ترتيب الوضع في أوكرانيا، بخاصّة في شبه جزيرة القرم، وفق ظروف ما قبل عام 2014، ولو عبر جعْلها منطقة منزوعة السلاح.