مفاوضات «خارج الموضوع»: الحلّ السوداني لا يزال بعيداً

مفاوضات «خارج الموضوع»: الحلّ السوداني لا يزال بعيداً

أخبار عربية ودولية

السبت، ١٣ مايو ٢٠٢٣

وسط المساعي لتسويق محادثات جدّة الجارية بين أطراف الأزمة في السودان على أنها تتجاوز الهدنة الإنسانية، إلى ترتيبات للمرحلة الانتقالية والعودة إلى خطوط ما قبل الـ15 من نيسان، خرج ما عُرف بـ«إعلان جدّة للالتزام بحماية المدنيين في السودان» في جنح الليل (11 أيار)، مركّزاً في الأساس على جهد تخفيف المعاناة عن السودانيّين، ومتضمّناً أيضاً إشارة واضحة إلى أنه لا يؤثّر على «أيّ وضع قانوني أو أمني أو سياسي» للأطراف الموقّعة عليه (بعد 15 نيسان)، وكذلك إشارة مهمّة إلى الالتزام بـ«سيادة السودان والحفاظ على وحدته وسلامة أراضيه»، ليثبّط مرحليّاً أفكاراً سوّقتها وسائل إعلام - إماراتية التمويل - عن أن الصراع الحالي سيعني تفتيتاً للدولة السودانية. ولم يُثر الإعلان، ساعات بعد إخراجه، اهتماماً دوليّاً كان متوقّعاً، ما قد يوضح هزالته، ويعزّز فرضيّة أنه تمّ الدفع به لإثبات جدّية المحادثات واستمراريتها ريثما يحدث اختراق مأمول، علماً أنه لا يمكن إغفال تحذير الإدارة الأميركية، قبل أيام، من أنها في صدد تجهيز عقوبات ضدّ أطراف الأزمة في السودان (ووضع قائمة بالأسماء بالفعل)، حال فشل محادثات جدّة «في إنهاء القتال»، في تلميح إلى احتمال استهداف رئيس «مجلس السيادة» عبد الفتاح البرهان، كما غريمه قائد قوات «الدعم السريع» محمد حمدان دقلو (حميدتي).
 
على أيّ حال، تضمّن الاتّفاق التزامات مستحقّة على القوات المسلّحة و«الدعم السريع»، أبرزها: ضمان حماية المدنيين والسماح بمرور آمن لهم للخروج من مناطق الأعمال العدائية، واحترام القانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان، وتيسير القيام بأعمال الإغاثة الإنسانية الأساسية؛ واختُتم بإعلان طرفَيه التزامهما إزاء إعطاء الأولوية للمناقشات بهدف تحقيق وقفٍ لإطلاق نار، والالتزام بـ«جدولة المناقشات الموسّعة اللاحقة لتحقيق وقف دائم للأعمال العدائية». لكن الاتفاق جاء دون التوقّعات التي روّجت لشموله ترتيباتٍ لوقف إطلاق نار ممدّد، بل وإعادة إطلاق العملية السياسية المعطّلة منذ شهر. وعلى رغم إعلان وزارة الخارجية السعودية (12 أيار) استمرار محادثات جدّة لترتيب الهدنة المقرّرة لمدّة عشرة أيام، وإطلاق مسار مشاورات أخرى «لوقف دائم لإطلاق النار»، فإن تَرك مسألة الجدولة المقرّرة للتفاوض، يؤشّر إلى حرص الجيش السوداني على تفادي أيّ إشارة إلى انخراط «المدنيين السودانيين والشركاء الإقليميين والدوليين في الجولات المقبلة من المحادثات»، بحسب بيان الخارجية السعودية الذي حاول استباق العملية برمّتها وتحويل محادثات جدّة إلى مظلّة تفاوضية للعملية الانتقالية في السودان، تكون للرياض وواشنطن - التي أعلنت خارجيتها العمل، من الآن، على التوصّل إلى وقف إطلاق نار لمدّة 10 أيام - اليد الطولى فيها، من دون أفق زمني واضح بطبيعة الحال.
وبالنظر إلى بطء سيْر المحادثات وضآلة مخرجاتها، فإنه لا يتوقّع إنجاز الترتيبات الأمنية المترتّبة عليها بسهولة، لا سيما وأن مسألة من مثل «عودة الخدمات الأساسية» التي اتُّفق عليها، ستعني حال تحقُّقها حرمان قوات «الدعم السريع» من أغلب قدراتها التفاوضية الراهنة، حال الاتفاق على نقاشات جديدة في جدّة لإرساء هدنة «مطوّلة». وعليه، تُرجَّح إعادة النظر في تفاصيل الإعلان خلال أيّ جولات لاحقة، لا سيما من جانب «الدعم»، ومن ثم تمديد أيّ جداول زمنية مقرَّرة لهذه المرحلة.
وكشف بيان الخارجية الأميركية (التي يتألف وفدها في الوساطة من مسؤولين في السفارة الأميركية في الرياض والملحق العسكري الأميركي، والسفير الأميركي في الخرطوم، ومنسّق من مجلس الأمن القومي) حول الإعلان عن مقاربة «الخطوة بخطوة» التي ستمضي بمقتضاها محادثات جدّة اللاحقة، تطلُّع الرياض وواشنطن - بالتشاور مع القوات المسلحة السودانية و«الدعم السريع» - لمناقشات مع المدنيين السودانيين والشركاء الإقليميين والدوليين «حول المشاركة في جولات المحادثات التالية»، في نصّ مطابق للبيان السعودي. لكن عدم تضمين مثل هذه الإشارة في «إعلان جدة» يوضح أن هذه النقطة ليست منسّقة مع القوات المسلحة السودانية الحريصة، من جهتها، على وضع المحادثات في سياقات دنيا لإنهاء أزمة تمرّد داخلية، وليس في إطار أشمل ينشّط العملية السياسية الانتقالية في البلاد، كما يوحي البيانان السعودي والأميركي. كما رشح من تصريحات مسؤولين أميركيين مطّلعين، عقب توقيع الإعلان، أن وجه اختلاف الأخير عن هدن وقف إطلاق النار السابقة، شموله محاولة (الأميركيين) تطوير آلية لمراقبة وقف إطلاق النار بدعم من الأمم المتحدة والسعوديين ودول أخرى (لم يسمّها)، وأنه بالنظر إلى عمق العداء بين «الطرفَين» و«الصراع على السيطرة»، فإن الإعلان يهدف إلى الانتقال سريعاً إلى «مناقشات حقيقية» حول آليات تطبيق ما تمّ الاتفاق عليه.
وهكذا، يُرتقب أن تَستأنف محادثات جدّة خطواتها البطيئة من دون طرْح تصوّر محدّد لحجم انخراط القوى المدنية أو الأطراف الإقليمية والدولية فيها في الفترة المقبلة (كما أعلنت الرياض وواشنطن)، ومن دون تقديم القوى السياسية السودانية رؤى إزاء المشاركة من عدمها، وفي ظلّ مواصلة راعيا المحادثات سياسة الإملاءات على أطرافها، فضلاً عن غموض مسألة «الإجراءات الأمنية المحدّدة» وما إذا كانت ستتضمّن استقدام قوات إقليمية أفريقية «للمراقبة» أم أنّ الولايات المتحدة والسعودية «وشركاء دوليين» سيشرفون عليها. ويدفع ذلك إلى توقُّع استدامة المحادثات في موازاة استمرار الأعمال العدائية خلال ما تبقّى من أيار الجاري على أقلّ تقدير.
في المحصّلة، تظلّ توقّعات حدوث اختراق في محادثات جدة لصالح وقف دائم لإطلاق النار محدودة للغاية، لا سيما وأن مخرجاتها، بعد عشرة أيام، بدت هزيلة للغاية ولا ترتقي إلى مواجهة التحدّيات الآنية التي يواجهها الشعب السوداني، بل وتتّسق مع جهود إضاعة الوقت لحسم الصراع على الأرض، وكذلك مع استمرار تقديم «شركاء السودان» حلولاً سياسية ملتبسة وغير واضحة ومغذّية للصراع من قَبيل السعي إلى القفز فوق المعضلة «الأمنية» الراهنة، إلى إقرار الوضع القائم وشرعنته بمشاركة «مدنية» سودانية، والعودة الجبرية إلى عملية سياسية فوقية وإقصائية.