صربيا - كوسوفو: فتيلُ تفجير في «التوقيت الخاطئ»

صربيا - كوسوفو: فتيلُ تفجير في «التوقيت الخاطئ»

أخبار عربية ودولية

الجمعة، ٣٠ ديسمبر ٢٠٢٢

يشهد إقليم كوسوفو، منذ أسابيع، توتّراً متصاعداً أوْصله أخيراً إلى حافّة النزاع المسلّح، الذي يبدو، إلى الآن، أن ثمّة حرصاً من قِبَل الأطراف كافّة على تفاديه، إذ إن القوى الغربية، دائمة التخوّف من النفوذ الروسي في البلقان، تجد أن نزاعاً من هذا النوع سيصبّ في نهاية المطاف في مصلحة موسكو، فيما الأخيرة، المنشغلة بحربها في أوكرانيا، تؤْثر الحفاظ على التوازنات القائمة. ومن هنا، تبدو أبواب الحلّ الدبلوماسي مفتوحة، لكن وصول الأوضاع إلى مرحلة احتقان كبيرة، قد يجعل «عودَ ثقابٍ واحداً كافياً لإشعال كلّ شيء»، وإخراج الأمور عن السيطرة
لم يصمد اتّفاق «تجنّب المزيد من التصعيد» بين صربيا وكوسوفو طويلاً. فالتوتّر بين بلغراد وبريشتينا عاد ليتصاعد، منذ 10 كانون الأوّل الجاري، إلى حدٍّ بات معه «عودُ ثقابٍ واحد كافياً لإشعال كلّ شيء». إذ تبدو الحكومة الكوسوفية مُصمّمة على تفكيك تمرّد الأقلّية الصربية الرافضة لاستقلال كوسوفو عن صربيا. وفي المقابل، تبدو صربيا حازمة في قرارها الدفاع عن صرب كوسوفو، وهي قد حشدت بالفعل جيشها عند الحدود لمنع ما وصفه وزير الدفاع الصربي، ميلوش فوسيفيتش، بـ«إرهاب مُنظّم من إدارة الإقليم ورئيس وزراء كوسوفو، غير المعترَف بها، ألبين كورتي، وسياسته التي تتجسّد في التطهير العرقي الكامل». وبين الجانبَين، تقف قُوّة «حلف شمال الأطلسي» المنتشِرة في كوسوفو، متفرّجةً على التدهور السريع لاستقرار الإقليم، حتى وصل إلى «حافّة الانزلاق إلى نزاعٍ مسلّحٍ»، وفق تحذيرات أطلقتها رئيسة الوزراء الصربية، آنا برنابيتش.
جذور التوتّر الحالي تعود إلى قرار حكومة كوسوفو، قبل أربعة أشهر تقريباً، إلزام الأقلّية الصربية باستبدال لوحات سيّاراتها بأخرى صادرة عنها، ليردّ أبناء هذه الأقلّية على ذلك بإقفال معبرَين حدوديَّيْن، بالتزامن مع عمليات إطلاق نار شهدتْها المنطقة الشمالية، التي يعيش فيه أكثر من ثُلث صرب كوسوفو البالغ عددهم 120 ألفاً. كما استقال رؤساء بلديات من أصلٍ صربي، إلى جانب قضاة محلّيين ونحو 600 من مسؤولي الأمن، قبل التوصّل إلى اتفاق برعاية الاتحاد الأوروبي، يقضي بإيقاف قرار استبدال اللوحات. لكنّ التوصّل إلى تسوية بين الجانبَين لم يُهدّئ الأجواء في المنطقة الشمالية، حيث أجّجت دعوة بريشتينا إلى انتخابات بلدية فرعية في البلدات التي استقال رؤساء بلدياتها، غضَب سكّانها الصربيين، لتعود رئاسة كوسوفو وتُقرّر تأجيل الانتخابات من 18 كانون الأول الجاري إلى نيسان المقبل، بعدما أعلن أكبر حزب صربي مقاطعته إيّاها. إلّا أن تزامُن قرار التأجيل مع اعتقال كوسوفو شرطياً سابقاً من أصول صربية، يُشتبه في ضلوعه في هجمات ضدّ ضباط شرطة من أصل ألباني، دفَع بالتوتر القائم إلى مستوى أعلى من التصعيد، إذ ردّ مئات من صرب كوسوفو على اعتقال الشرطي بإقامة حواجز بالآليات الثقيلة شلّت حركة التنقّل عند ثلاثة معابر حدودية. وفيما شهدت المنطقة انفجارات وإطلاق نار، أعلنت شرطتا كوسوفو والاتحاد الأوروبي تعرّضهما لهجمات بأسلحة نارية، لم تسفر عن إصابات.
ومع تعزيز شرطة بريشتينا تواجدها في المنطقة الشمالية، وتلويح رئيس وزراء صربيا، ألبين كورتي، بإزالة الحواجز بالقوة، طلبت صربيا من «الناتو» منْحها الحق في نشر ألف عسكري وشرطي صربي في الإقليم لـ«حماية السكّان الصرب» هناك، لتردّ «قوة كوسوفو» التابعة لـ«الناتو» على ذلك بالتأكيد أنها «تتمتّع بكلّ القدرات، بما فيها على صعيد العديد، لضمان بيئة آمنة وحرية تحرّك لجميع المجموعات في كلّ أنحاء كوسوفو». وعلى رغم ما تَقدّم، طلب الرئيس الصربي، ألكسندر فوسيتش، مطلع الأسبوع الجاري، من جيشه زيادة عدد العسكريين الصرب المنتشرين على طول الحدود، من 1500 إلى خمسة آلاف، وأمَره بأن «يكون على أعلى مستوى من التأهّب القتالي، أي على مستوى الجاهزية لاستخدام القوة المسلّحة»، فيما أعلنت وزارة الداخلية الصربية أن «كلّ الوحدات» التابعة لقوى الأمن الداخلي «ستوضع على الفور تحت إمرة رئيس الأركان العامة». وفي المقابل، أكّدت كوسوفو أنها لن تَدخل في حوار «مع العصابات الإجرامية (...) لن نسمح بوجود حواجز على أيّ طريق»، مضيفةً أن شرطتها «قادرة على التدخّل ومستعدّة له، لكنها تنتظر قوات حفظ السلام التي يقودها حلف شمال الأطلسي في كوسوفو، والتي تلعب دوراً محايداً».
 
بذلك، وصل التحشيد العسكري إلى ذروته، ما عزّز التخوف لدى القوى الغربية من اشتباك الطرفَين، ودفعها إلى استنفار دبلوماسيّيها لتفادي السيناريو الذي قد تكون له تداعيات على منطقة البلقان بأسرها. وبدا هذا واضحاً في بيان مشترك للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، أعلنا فيه أنهما يعملان مع الجانبين لـ«إيجاد حلّ سياسي»، ودعوَا الجميع إلى «التزام أكبر قدْر من ضبط النفس واتّخاذ إجراءات فورية من أجل نزع فتيل التوتّر من دون شروط». وعلى رغم الاستعدادات العسكرية التي اتّخذتها صربيا، أبقت بلغراد على «خطّ اتصال مفتوح» مع دبلوماسيين غربيين. ولم تقفل كوسوفو، بدورها، الباب أمام الحلّ الدبلوماسي، لتفرج، الأربعاء الفائت، عن الشرطي السابق من أصول صربية الذي بدأت الأحداث باعتقاله، وتضعه قيد الإقامة الجبرية، وهو ما بدا خطوة أولى على طريق خفض التصعيد. بالتزامن، أعلن مجلس الوزراء الصربي تلقّيه «ضمانات من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، أكثر جدّية من أيّ وقت مضى في ما يتعلّق بمطالب الصرب التي طرحوها كشرط لتفكيك المتاريس والحواجز التي قاموا بنصبها». وبالفعل، بدأ صرب كوسوفو، أمس، تفكيك تلك الحواجز، على رغم تأكيد الرئيس الصربي، في لقاء مع ممثلين عنهم قرب الحدود بين الجانبين، أن «انعدام الثقة لا يزال قائماً».
 
خلط الأوراق غير ممكن
لطالما أبدت القوى الغربية تخوّفها من النفوذ الروسي في منطقة البلقان، خصوصاً بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا. وهو ما يفسّر سعيها الدائم إلى تغليب الحلول الدبلوماسية، وتجنّب الانزلاق إلى نزاعات عسكرية، قد تستغلّها روسيا ضدّ الأوروبيين. ولا ترى هذه القوى من حلّ لِلَجم النفوذ الروسي سوى بتوثيق علاقة الاتحاد الأوروبي بدول غرب البلقان وضمّها إليها، وهو ما شدّد الأوروبيون عليه في القمّة التي استضافتها ألبانيا مطلع الشهر الجاري. وعلى رغم منْح المفوضية الأوروبية، عقب القمّة، البوسنة والهرسك وضعيّةَ مرشّحة للانضمام إلى الاتحاد، ومن ثمّ تَقدّم كوسوفو بطلب رسمي مماثل، لا يبدو ذلك ممكناً في المدى المنظور، نتيجة التناقضات داخل أوروبا نفسها. ففي حالة كوسوفو مثلاً، لا تزال خمس دول في التكتّل لا تعترف باستقلالها. ولا يبدو المشهد مختلفاً بالنسبة إلى روسيا، فعلى رغم وقوفها الواضح وراء صربيا في الأزمة الراهنة، بدا واضحاً أيضاً تفضيلها الحفاظ على التوازنات القائمة التي تضْمن نفوذها، وعدم الذهاب بعيداً في الخيارات غير الدبلوماسية، في ظلّ استنزاف مواردها داخل أوكرانيا، وصعوبة تقديمها المسانَدة لحلفائها.