«جيش نصف الشعب»: عن «مِنعة» إسرائيلية تتخلخل

«جيش نصف الشعب»: عن «مِنعة» إسرائيلية تتخلخل

أخبار عربية ودولية

الخميس، ١٥ ديسمبر ٢٠٢٢

لم يَعُد الحديث عن التمزّق الذي يعانيه المجتمع الإسرائيلي، وتدهوُر الحَوكمة وتراجُع الثقة بمؤسّسات الكيان، مع ما تستبطنه تلك الظواهر من تهديد لمستقبل الدولة العبرية، مجرّد تقدير خبير أو رأي إعلامي متشائم، وإنّما تحوَّل إلى خطاب رسمي مجمَع عليه، تكرَّر وروده على ألسنة الكثير من المسؤولين الحاليين والسابقين، بِمَن فيهم رؤساء الوزراء بنيامين نتنياهو ويائير لابيد ونفتالي بينت، إلى جانب مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام. ومِن بين مَن تناولوا هذه القضية بشكل مسهب، رئيس أركان الجيش السابق، غادي آيزنكوت، الذي على الرغم من خلفيّته وتاريخه العسكريَين، إلّا أنه لا يفتأ يركّز في مواقفه وخطاباته على خطورة تفكُّك «العلاقات الاجتماعية والتماسك الداخلي» على مستقبل إسرائيل. ولعلّ مردّ ذلك، قناعته بأنه مهما بلغ تطوُّر قدرات الكيان العسكرية، فهو يظلّ بحاجة إلى ما يسمّيها آيزنكوت «المِنعة القومية للمجتمع»، والتي هي بحسبه «أهمّ عنصر في الأمن القومي... وتشكّل على الأقل 51٪ منه»، فضلاً عن أن المعادلة التي تَحكم علاقة «المِنعة» بـ«الأمن» هي التبادلية في التأثير، ولذا «لا يوجد أمن قومي من دون تضامن اجتماعي، ولا تضامن اجتماعي من دون أمن قومي».
يكشف ما آل إليه المجتمع الإسرائيلي من انقسامات وصراعات، فشلاً مدوّياً لنظرية «الانصهار الاجتماعي»، التي شكّلت أحد مرتكزات المشروع الاجتماعي للحركة الصهيونية، وفق عقيدة بن غوريون. فبدلاً من قيام مجتمع متجانس ومتعاضد، انتهى الأمر إلى «قبائل» منقسِمة على أسس إثنية ودينية فضلاً عن الأيديولوجية، ومتصارِعة في ما بينها حول هوية المجتمع والدولة وصولاً إلى العلاقة مع الآخر حتى لو كان يهودياً، فضلاً عن سيادة النزعة الفردانية بدلاً من الترابط الاجتماعي، وانعكاسها على رؤى الأفراد وأولوياتهم. وبعيداً عن المبالغة في تقدير تبِعات هذه الظواهر، إلّا أن القادة الإسرائيليين يدركون أن تجذّرها في مجتمعهم، سيكون من شأنه إفقاد هذا الأخير القدرة على الصمود في مواجهة الضغوط، أو على تحمُّل التضحيات. ومن هنا، ينبع تنبيه الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية «أمان»، اللواء عاموس يادلين، إلى أن «سلاح الاحتياط في الجيش يمثّل المجتمع، والمجتمع لا يريد إرسال أبنائه إلى الموت»، في مقابل استعداد أعداء إسرائيل للتضحية والصمود، وتصويب قدراتهم النارية على ما يشكّل عنصر ضغط على الجمهور والقيادة على حدّ سواء في الكيان.
أيضاً، يتجلّى تردّي «المِنعة القومية» في/ ويتغذّى من، ظواهر أخرى من بينها التراجع المستمرّ في نِسب التجنيد في الجيش، والذي أدّى، بإقرار وزير الأمن، بني غانتس (إسرائيل هيوم، 13/12/2022)، إلى تحويل «جيش الشعب» إلى «جيش نصف الشعب عملياً»، في ما لا يمكن فصله عمّا يشهده المجتمع من متغيّرات كون «الجيش يتشكّل من المجتمع، وبالتالي ينبغي أن يتغيّر معه». وبخصوص النتائج التي يمكن أن تترتّب على هذا الواقع، فقد كان غانتس صريحاً ومباشراً في التحذير من مخاطره على الأمن القومي، بقوله: «إذا لم نحافظ على جيش الشعب، لن يكون هناك أمن، ولن يكون هناك تكتّل مدني ومِنعة اجتماعية، وهذا سيكلّفنا باهظاً» (إسرائيل هيوم، 12/12/2022). على أن ما حذر منه غانتس لا يتعلّق بالمستقبل فقط، بل هو في طوْر التحقّق، كون الجيش، وخصوصاً منه سلاح البرّ، أصبح «جيش المناطق المهمَّشة»، في مقابل مَن يخدمون في الاستخبارات والتكنولوجيا أو وحدات النخبة (معهد أبحاث الأمن القومي، 13/12/2022). وهكذا، لم يَعُد الجيش يلعب الدور الاجتماعي المؤمَّل منه، بعدما فشل في تحقيق مشروع «بوتقة/ فرن الصهر»، وتحوَّل إلى نظام يؤبّد الطبقية الاجتماعية. وبدلاً من أن يعيد إنتاج المجتمع وفق مواصفات مُحدّدة، فإن المجتمع، بكلّ عيوبه ونقاط ضعفه، هو الذي أعاد إنتاجه.
يبقى أن الخلاصة الأكثر خطورة بالنسبة إلى الكيان، هي أن هذه الدينامية لم تبلغ نهاياتها بعد، ما يعني أن الأزمة مفتوحة على أكثر من سيناريو «تفجيري» للتناقضات الداخلية. ومن ضمن المؤشّرات الدالّة على ذلك لدى جهات القرار، ما حذَّر منه غانتس من أن «الخدمة في الجيش يمكن أن تصبح في المدى المتوسّط أكبر قنبلة أمنية واجتماعية لإسرائيل». وفي البُعد الاستراتيجي للمشكلة الاجتماعية التي تتفاقم ظواهرها ونتائجها، نبّه وزير الأمن، أيضاً، إلى أن بناء «جيش محترف قائم فقط على الخدمة الدائمة، بدلاً من جيش الشعب، ليس حلّاً. وكلّ مَن يعرف الأرقام والواقع العملياتي والوضع في العالم، يفهم هذا الأمر»، موضحاً أن سلبيات هذا البديل تصل إلى حدّ تشكيله «خطراً أمنياً استراتيجياً، وضرراً هائلاً للمِنعة الاجتماعية».
على رغم ما تَقدّم، تظلّ أزمات الواقع الإسرائيلي والظواهر المُواكِبة لها، إنْ لم تجد مَن يشخّصها ويمتلك الإرادة والحكمة لاستثمارها ضمن رؤية استراتيجية متكاملة، مجرّد قابليات وفرص عابرة.