جاك بو: تفكيك روسيا هدف أميركي قديم

جاك بو: تفكيك روسيا هدف أميركي قديم

أخبار عربية ودولية

الاثنين، ٧ نوفمبر ٢٠٢٢

جاك بو، العضو السابق في الاستخبارات الإستراتيجية السويسرية والخبير في شؤون دول شرق أوروبا، شارك في المفاوضات مع قادة جيش روسيا واستخباراتها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وتابع، خلال عمله مع حلف «الناتو»، الأزمة الأوكرانية عام 2014، كما أشرف على برامج مساعدات لهذا البلد. وقد شرح في كتابه «عملية زيد» (Operation Z)، الصادر هذا العام، الخلفيّات العميقة، التاريخية والجيوسياسية، للحرب الدائرة في أوكرانيا. وقد استند، في هذا الكتاب، إلى تقارير عسكرية رسمية ومعلومات استخبارية، لتحليل مجريات المواجهة الحالية وتفكيك السرديّة الغربية حولها، وما تتضمّنه من عناصر دعاية وتحريض. وقد خصّ «الأخبار» بمقابلة تمحورت حول خلفيّات الحرب الأوكرانية وأبعادها
 تَعتبرون أن الحرب في أوكرانيا هي نِتاج لتضافُر عدّة عوامل، أبرزها العامل الاستراتيجي. كيف تحلّلون الأبعاد الاستراتيجية لتوسيع «الناتو» شرقاً، والذي توازَى مع انسحاب الولايات المتحدة من عدّة معاهدات واتفاقات حول الأسلحة النووية؟
- تنبغي الإشارة، بدايةً، إلى أن توسيع «الناتو» شرقاً لم يَكن الدافع الأوّل للتدخُّل الروسي في أوكرانيا، والذي تصرّ موسكو على تسميته بـ«العملية الخاصّة». رَفْض الروس استخدام مفردة «حرب»، يرتبط بقناعتهم بأن الصراع اندلع عام 2014، عندما شُنَّت الهجمات الأولى على سكان منطقة الدونباس. هذا الصراع كان داخليّاً في أوكرانيا، حيث بادرت الحكومة إلى استهداف قسم من شعبها، ما أدّى إلى مقتل 14 ألف شخص بين عامَي 2014 و2022، بينهم 10 آلاف مدني ومؤيّد للحكم الذاتي لهذه المنطقة. وعلى رغم إنكار الغربيين لتنكيل النظام الأوكراني بشعبه على مدى 8 سنوات، فإنّنا لا نستطيع تغييب هذا المعطى لفهم دوافع التدخّل الروسي، وهي حماية السكان الناطقين بالروسية المهدَّدين في بلدهم. اعتمد الروس منطق «واجب الحماية»، الذي تحدّث عنه طوني بلير للمرّة الأولى في الأمم المتحدة بعد مجازر رواندا. لكن من الواضح أن موسكو وظّفت هذا الواقع أيضاً لخدمة أهداف استراتيجية: التصدّي لتوسيع «الناتو» المصنَّف تهديداً وجودياً من قِبَلها. تفتيت روسيا كان بين أهداف «تقرير وولفوفيتز» الذي جرى الإعلان عنه رسمياً عام 1992، وغُلّف هذا الأمر بكلام عن «تفكيك الاستعمار». كانت الخطّة تقتضي باتباع السيناريو اليوغوسلافي، أي تقسيم روسيا إلى كيانات صغيرة على أساس إثني. أنا لا أخترع شيئاً لأن هذه الأطروحات ما زالت موجودة على موقع الخارجية الأميركية، وقد عُقِد مؤتمر في براغ حول هذا الموضوع. نحن أمام تطبيق لمبدأ «فَرِّق تَسُدْ»، أي تقسيم الدول إلى كيانات صغيرة تَسْهُل السيطرة عليها، وهو ما حاول الأميركيون فعله في العراق، وفي سوريا وفي إيران، عبر مساندة المجموعات الانفصاليّة. الخطّة اليوم، عبر الحرب في أوكرانيا، ترمي إلى الدفع نحو تدهور الأوضاع العامة في روسيا إلى حدٍّ لا يُحتمل بالنسبة إلى شعبها، لينقلب على حكومته، وأن تقود المواجهات التي ستَنجم عن ذلك، إلى تفتت هذا البلد.
في بداية التسعينيات، لم يَعتبر الروس أن توسيع «الناتو» يمثّل تهديداً بالنسبة إليهم. هم ظنّوا أن الاتجاه آنذاك هو لصياغة هندسة أمنيّة جديدة في أوروبا، وإعادة بناء الحلف على صورة «منظمة الأمن والتعاون في أوروبا»، وكان من المحتمل أن يقدّموا طلباً للانضمام إليه. لم يتغيّر موقفهم إلّا في مطلع الألفية الثانية، عندما انسحب الأميركيون من عدّة اتفاقات لنزع السلاح النووي، وباشروا نشْر الصواريخ التي تَحمِل رؤوساً نووية في بلدان أوروبا الشرقية، ما عزَّز مخاوف روسيا المجاورة. وجود مسافة جغرافية كبيرة تتيح الوقت لرصْد الاستعدادات العدائيّة وفعل ما هو ضروري للتصدّي لها. لكن عندما يتمّ نشر الصواريخ النووية من الجهة الأخرى من الحدود، فإن الوقت المتاح للتفكير محدود جدّاً، بضع دقائق أو حتى بضع ثوانٍ. اليوم، وبسبب بلدان مثل أوكرانيا وفنلندا والسويد، لم يفكّروا بعمق بتبعات نشر أسلحة نووية، قد تصبح أوروبا إحدى ساحات المواجهة النووية في حال اندلاعها. الولايات المتحدة، التي تقع في ناحية أخرى من الكوكب، لا تخشى مواجهة نووية في أوروبا، ما يفسّر ترويجها المستمرّ لأهميّة السلاح النووي التكتيكي. خلال الثمانينيات، عندما أرادوا نشر صواريخ «بيرشينغ 2» في ألمانيا، شهدنا معارضة من قِبَل حركات السلام لأنها فهمت أن اللجوء إليها، تماشياً مع مفهوم «الردّ المتناسب»، يعني أن الحرب النووية ستنحصر في الأراضي الأوروبية. هذا يعني راهناً أن الدول الأوروبية الأعضاء في «الناتو» يقبلون أن يكونوا ضحايا نزاع نووي، لأن الأميركيين سيتجنّبون ضرْب روسيا مباشرة لحماية أراضيهم.
 تعتقدون، في كتابكم، أن العامل الثقافي ساهم في اندلاع الحرب في أوكرانيا. تذكرون بأن التيار القومي الأوكراني اتّبع سياسات قمعيّة حيال الأقليّة الناطقة بالروسية. ما هي قراءتكم للعلاقات بين روسيا وأوكرانيا من منظور تاريخي؟
- هي علاقات يمكن وصفها بالضبابية، لأن أوكرانيا بلد متعدّد. القسم الغربي منها كان جزءاً من الإمبراطورية النمسوية - المجرية، ولم يتقبّل سكانه الحقائق السياسية والجغرافية التي فرضتها «معاهدة فرساي». فقد تمّ «منح» هذا القسم للاتحاد السوفياتي، ليبدأ، منذ تلك اللحظة، نموّ الحركات القومية فيه. وبعدما كانت مناهِضة للسوفيات، باتت معادية للروس أخيراً. هي ليست نازية بل حركات قومية فاشية، قريبة من حيث طبيعتها بالحركات الشعبوية الرافضة للديموقراطية، والتي تعطي الأولويّة للمسألة القومية. الحرب العالمية الثانية، وخاصة «عملية بربروسا» الألمانية ضدّ الاتحاد السوفياتي، عام 1941، هي التي مكّنت الأوكرانيين في غرب البلاد من الاستقلال، وهي سبب إعجابهم بالنظام النازي. بالنسبة إلى الفرنسيين، كان السوفيات حلفاء ضدّ النازية، بينما يرى الأوكرانيون أن الأخيرة كانت حليفاً ضدّ السوفيات. اليمين المتطرّف قويّ جداً في أوكرانيا حاليّاً، ومتجذّر شعبيّاً، وهو يُستغَلّ من قِبَل الغربيين لغايات متّصلة بسياستهم الخارجية. هناك مسألة لافتة أخرى، وهي تأثير الأبعاد الشخصيّة على موقف سياسيين غربيين من الحرب الأوكرانية: فأورسولا فان دير لاين، وأنتوني بلينكن، وكريستيا فريلاند، لديهم صلات عائلية وشخصيّة بأوكرانيا أو بألمانيا النازية. بعضهم يتحدّر من أصول يهودية أوكرانية أو من عائلات موالية للنازية اضطرّت إلى الفرار خوفاً من السوفيات بعد عام 1945. لدينا جيل من السياسيين يكنّ كراهية شديدة لروسيا، ما يعطي الأزمة الحالية طابعاً هستيريّاً، ويَحمل على استبعاد حقيقة أن الصراعات تُحلّ بالتفاوض في النهاية.
 ما هي تبعات النفوذ المتعاظم لليمين المتطرّف وإصراره على «نقاء أوكرانيا» وتخليصها من الناطقين بالروسية؟
- في الواقع، يجري توظيف اليمين المتطرّف منذ «انقلاب ميدان» عام 2014. لم يوافق الجنوب الأوكراني على التغيير القسري للنظام، ولم يستطع الجيش الأوكراني قتال هذا الجزء من السكّان، بل انضمّ بعض أعضائه إلى المتمرّدين بينهم. قرَّرت السلطات في كييف، حينها، استخدام الميليشيات التي شاركت في الانقلاب، وتحويلها إلى وحدات عسكرية رديفة لإرسالها للقتال في الدونباس وأوديسا، وكذلك في القرم في البداية. اتّضح في ما بعد أن بإمكان هذه السلطات الاعتماد على الوحدات المذكورة أكثر من الجيش النظامي، لأن عناصرها في غالبيتهم من غرب البلاد، وهي أشدّ انسجاماً على المستوى الأيديولوجي نتيجة انتمائها لليمين المتطرّف. عندما يتحدّث هؤلاء عن أوكرانيا موحّدة، هم يقصدون بلداً «نقيّاً» على المستوى العرقي.
علينا متابعة التطوّرات بعد الانتخابات النصفية لنرى ما إذا كان الأميركيون سيتبنّون موقفاً عقلانيّاً
 هل من المحتمل أن تُعيد واشنطن النظر في استراتيجيتها إذا عجزت القوات الأوكرانية عن تحقيق نصر حاسم في الميدان؟
- ليس الأميركيون وحدهم مَن يضغط على كييف لتحقيق انتصار حاسم، بل كذلك الأوروبيون الذين أصبحوا لاعباً غير عقلاني في هذا النزاع. إدارة جو بايدن مستمرّة في توفير دعم مكثّف لأوكرانيا، لكن الجمهوريين، بعد الانتخابات النصفيّة، قد يطالبون بالحدّ من التورّط في هذه الحرب المكلفة، والتي لم تُعطِ النتائج المرجوّة، والالتفات إلى المشكلات الأميركية الداخلية. الجيش الأوكراني منهك في الواقع، على رغم نجاحاته الأخيرة، وإنجازه لنصرٍ حاسم فرضيّة غير واقعية. المقاربة الأوروبية لا عقلانية أكثر من تلك الأميركية. تذكّروا النقاش الذي دار، في بداية هذه السنة، حول العقوبات الخاصّة بالمنتجات النفطية. عارض الأميركيون في بداية الأمر هذه الفكرة وضغطوا على الأوروبيين لعدم فرض عقوبات لأنهم تخوّفوا من نتائجها على أسواق الطاقة. لكن الأوروبيين لم يتجاوبوا مع هذه الضغوط. علينا ألّا ننسى أيضاً عرْض زيلينسكي التفاوض في 25 شباط الماضي، وقيام الأوروبيين بحمْلِه على التخلّي عن الفكرة. رفض الاتحاد الأوروبي التفاوض مع بوتين ومنح أوكرانيا سلاحاً بقيمة 450 مليون يورو. تكرّر سيناريو مشابه في أواخر آذار، إذ وافق زيلينسكي على التفاوض حول سيادة روسيا على القرم وحول الدونباس وكذلك حول حياد أوكرانيا، لكن الأوروبيين أجبروه على التراجع. غاية الأوروبيين لم تَكُن مساعدة أوكرانيا، بل استفزاز روسيا للتدخّل عسكريّاً فيها تمهيداً لهزيمتها والتسبُّب بسقوط نظام بوتين. هذا ما شرحه برونو لو مير، وزير الاقتصاد الفرنسي، عندما أكد أن العقوبات المفروضة على روسيا ستفضي إلى تضخّم هائل، وإلى عزلها عن الاقتصاد العالمي، ما يَحدّ من قدرتها على خوض حرب طويلة، ويقود إلى انهيارها اقتصادياً، وإلى سقوط «منظومة بوتين» في النهاية. الغربيون عاجزون عن فهْم طرق تفكير خصومهم لأنهم يستخفّون بهم. ربّما سيتطلّب الأمر غرق أوروبا في مشكلاتها حتى يدرك قادتها ضرورة وقْف تغذية هذه الحرب، والجلوس إلى طاولة المفاوضات.
 ماذا عن روسيا، وإلى أيّ مدى هي مستعدّة للذهاب نحو تحقيق أهدافها؟
- حدّدت روسيا هدفَين لتدخُّلها: استئصال النازيين ونزع السلاح. تحقَّق الهدف الأوّل، المرتبط بحماية سكان الدونباس عبر سيطرة الجيش الروسي على ماريوبول، عاصمة «كتيبة آزوف» اليمينية المتطرّفة. الهدف الثاني أبعد منالاً، لأن الغربيين يسلّحون الجيش الأوكراني. قد يسعى الروس إلى إسقاط كراماتوسك، وبعدها الهجوم على سيباستوبول لاحتلال أوديسا أيضاً. هم لم يرغبوا في البداية باحتلال أوكرانيا، بل بتدمير القوى التي يعتبرونها تهديداً. لقد أقرّ الجنرال سيرغي سوروفيكين، قائد القوات الروسية، بأن المهمّ بالنسبة إلى موسكو ليس السيطرة على أوكرانيا، بل الإجهاز على قدراتها العسكرية. لكن المساندة الغربية للجيش الأوكراني سمحت له بتجديد قدراته، ما اضطرّ الروس للسيطرة على أراضٍ لن يتراجعوا عنها بعد الآن. قد يستفيدون كذلك من الظروف الراهنة للسيطرة على زابوروجيا وأوديسا وفتح معبر إلى ترانسنيستريا. في مثل هذه الحالة، ستُحرم أوكرانيا من أيّ منفذ على البحر الأسود، وستصبح بلداً قاريّاً فاقداً لقدراته التجارية والصناعية وغير قابل للحياة بالمعنى الفعلي للكلمة. بعض الدول الأوروبية كالمجر ورومانيا، سبق وأن تحدّثت عن استعادة أجزاء من أوكرانيا تزعم أنها اقتُطعت من أراضيها في الماضي. علينا متابعة التطوّرات بعد الانتخابات النصفية لنرَ ما إذا كان الأميركيون سيتبنّون موقفاً عقلانيّاً ويُلزِمون حلفاءهم الأوروبيين به. الأسابيع القادمة ستكون حاسمة بالنسبة إلى مستقبل أوكرانيا.