اختلالات في موازين القوّة: أفق التسوية الليبية يتوسّع

اختلالات في موازين القوّة: أفق التسوية الليبية يتوسّع

أخبار عربية ودولية

الأربعاء، ٢ نوفمبر ٢٠٢٢

منذ إرسالها قوّاتها إلى ليبيا في كانون الثاني 2020، بالتنسيق مع «حكومة الوحدة»، تُواصل تركيا تعزيز حضورها العسكري هناك، في ما ستكون له تأثيراته على توازنات الوضع الداخلي، فضلاً عن تبعاته على مجمل الأوضاع الإقليمية في دول جوار ليبيا وعبر البحر المتوسّط. وتَمثّلت أحدث حلقات هذا التصعيد في زيارة رئيس الحكومة المُشار إليها، عبد الحميد الدبيبة، إلى أنقرة (25 - 26 تشرين الأول)، وتوقيعه، خلال حضوره معرض «SAHA Expo للدفاع والفضاء»، بروتوكولاً للتدريب الجوي، تقوم بمقتضاه تركيا بتدريب الطيّارين الليبيين (بعدما كانت مصر تتولّى حصرياً هذه المهمّة في الأعوام الأخيرة)، والمساهمة في رفْع كفاءة القدرات الجوّية العسكرية الليبية، فضلاً عن تطبيق بروتوكولات الاتفاق الأمني الذي وقّعه فايز السراج مع أنقرة عام 2019، ما يعني دفْع الحضور العسكري التركي إلى مستويات متقدّمة جديدة.
سياسة «الدرونز»
باتت «الدرونز» تمثّل رافعة الدور التركي العسكري - السياسي في ليبيا، منذ نجاحها في صدّ هجوم اللواء المتقاعد، خليفة حفتر، وقوّاته على العاصمة طرابلس، الأمر الذي كان محلّ تفاخر الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، عندما قال خلال جولته الأفريقية قبل عام: «أينما ذهبتُ في أفريقيا، الجميع يسألونني عن الدرونز (التركية)». ومع اتّساع الأسواق الدولية أمام هذه الطائرات من دون طيّار (لا سيما في بولندا وأوكرانيا، حيث تُستخدَم حالياً ضدّ القوات الروسية)، سجّلت صادرات تركيا العسكرية قفزة إلى بليونَي دولار في النصف الأول من العام الجاري، بزيادة قدْرها 48% عن الفترة نفسها من العام الماضي، أرجعها محلّلون عسكريون أتراك إلى زيادة مبيعات «الدرونز»، فيما يَظهر أن السوق الليبية ستمثّل مستقبِلاً رئيساً لمشتريات السلاح التركي في الفترة المقبلة. ولعلّ تلك القفزة شجّعت تركيا على تطوير الجيل الحالي من «بيرقدار»، لتكشِف (27 تشرين الأوّل) عن جيل ثانٍ في طليعته طراز «ALPAGUT» الأصغر حجماً من سابقاته، والذي يتمتّع بخواص أكثر تطوّراً، أبرزها القدرة على التحليق لمدّة ساعة على بُعد 60 كيلومتراً، وحمْل رأس قابل للانفجار من زنة 11 كغم، ما يؤشرّ، في حال حصول طرابلس على هذا الطراز، إلى ميلان الكفّة لصالح الأطراف العسكرية المصطفّة خلف «حكومة الوحدة». ويأتي ذلك في وقت تتحدّث فيه تقارير غربية عن أزمة «بيروقراطية» في الوجود التركي في ليبيا، في ظلّ تخلّف أنقرة عن دفْع رواتب أغلب المرتزقة السوريين منذ ستة شهور، مع الحفاظ على انتظام رواتب قادتهم، ومنْحهم حوافز تتمثّل في مزيد من الرحلات الجوّية المباشرة التي تقلّهم من طرابلس إلى سوريا للقاء أُسرهم. وفي حال صحّت هذه التقارير، فإن احتمالات انخراط عناصر تركية ذات تدريب رفيع المستوى، بشكل مباشر، في أيّ عمليات عسكرية مقبلة في ليبيا ترتفع بقوة.
 
تحوّلات في المواقف
تلقّى معسكر حفتر ضربة استثنائية بإعلان روسيا، مطلع تشرين الأوّل، عزمها إعادة فتح سفارتها في طرابلس، فيما تواردت تقارير عن احتمال تعاوُن موسكو مع أنقرة في مجال استكشاف البترول والغاز في المياه الليبية الإقليمية. بالتوازي مع ذلك، وصل السفير الفرنسي الجديد، مصطفى مهراج، إلى العاصمة الليبية (26 تشرين الأول)، بعدما تعهّدت بلاده، أمام الأمم المتحدة، بدفْع مسار توحيد القوات المسلّحة، واستمرار دعمها الحوار بين الشرق والغرب، داعيةً جميع الفاعلين الليبيين والإقليميين (تركيا) إلى «احترام حقوق السيادة للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي» (في إشارة إلى الاتفاقات التركية - الليبية، التي لا تتّسق مع قانون البحار الدولي من وُجهة النظر الأوروبية). والظاهر أن باريس ستمثّل نقطة ارتكاز لعمل «5+5» في الفترة المقبلة، عقب استضافتها (بين 14 و20 تشرين الأول) اجتماعات مطوّلة للجنة (وإنْ تمّ أغلبها في مقرّ السفارة الليبية في العاصمة الفرنسية)، في ما لا يمكن فصْله عن مجمل التحوّلات الحاصلة في ليبيا، والتي تنبئ بتَعزّز حظوظ التسوية مجدّداً. وفي سياق هذه التحوّلات نفسها، نحت الإمارات، لا سيما بعد اتّهامات وزارة الدفاع الأميركية لها بتمويل جانب من تكاليف أنشطة مجموعة «فاغنر» الروسية الخاضعة للعقوبات الأميركية في ليبيا، إلى تغيير سياساتها تجاه هذا البلد، على الأقلّ ظاهرياً، فيما أرجعه مراقبون ليبيون، في جزء منه، إلى نجاح الدبيبة في تحييد أبو ظبي، عبر تعهّده بإحياء اتّفاقات نظام معمر القذافي معها في قطاعات الاتصالات والطاقة والتشييد، والتفاوض مع الشركات الإماراتية للحصول على فرص للعمل في مناطق التجارة الحرة والمناطق الاقتصادية والموانئ. وبدت مؤشّرات ذلك واضحة في التراجع الملحوظ للتمويل الإماراتي للمنافذ الإعلامية الموالية لحفتر طوال العام الجاري، وتهميش الجنرال المتقاعد لصالح لغة أكثر ودّيةً حيال طرابلس.
 
أفق الأزمة
مع إقرار مجلس الأمن (28 تشرين الأول) تمديد عمل بعثة دعم الأمم المتحدة في ليبيا لمدّة 12 شهراً، وعلى رغم التفويت المتكرّر لمواعيد الانتخابات (آخرها 24 كانون الأوّل المقبل)، فإن أفق تسوية الأزمة الليبية قد يبدو منظوراً هذه المرّة أكثر من أيّ وقت مضى منذ عام 2019. إذ إن التعاون العسكري المتنامي بين أنقرة وطرابلس ينبئ بتحوّل عن حالة توازن القوى الحرج بين أطراف الأزمة، لصالح توازن جديد يدفع في اتّجاه تسوية سياسية، خصوصاً إذا ما استطاعت لجنة «5+5» الوصول إلى تفاهمات، وتجاوُز عقبة وضع حفتر على رأس السلطة التنفيذية بعد التسوية (وهو ما قد تؤشّر إليه تفاهمات عقيلة صالح (رئيس البرلمان) وخالد المشري (رئيس مجلس الدولة) الأخيرة في الرباط). كما أن دعوات الانتخابات الليبية تكتسب قبولاً متزايداً، في ظلّ حالة هدوء ميداني نسبي، بعد فشل محاولة فتحي باشاغا، رئيس الحكومة المُكلَّفة من البرلمان، في دخول طرابلس. في المقابل، وكعادته منذ ظهوره على الساحة قادماً من مدينة لانجلي الأميركية، قد يلجأ حفتر، إثر إخفاقه في التوصّل إلى اتفاق مع الدبيبة بشأن تقاسم السلطة، إلى خياره الأمثل، وربّما الوحيد في ظلّ المعطيات الحالية، وهو وقْف تدفّق البترول من مناطقه في شرق ليبيا، في ما سيكون بمثابة ورقة أخيرة وأداة ضغط تكتيكية لن تصمد طويلاً، لعوامل التوقيت وقلّة الداعمين لحفتر، وسياساته حتى وسط قطاعات كبيرة في الشرق وبين عدد من قادته.
وهكذا، فإن المحاصصات الدولية والداخلية الجارية، وإعادة ترسيم خطوطها وفق مصالح شركات دولية تتداخل بطبيعة الحال مع مصالح حكومات الدول المعنيّة، تشير إلى اتّساع أفق التسوية السياسية، وضمان سوق مستقرّ وشرعي لإنتاج الطاقة ونقلها، وكذلك الحيلولة دون انطلاق موجة لاجئين نحو شمال المتوسّط، أو وقوع ارتدادات لاضطرابات إقليم الساحل، واحتمالات سقوط آخر نظام قوي داعم للسياسات الفرنسية والأوروبية في تشاد.