تسجيل الوصايا وسيلةً للتحشيد: «مقاومون جدد»... في معركة الوعي أيضاً

تسجيل الوصايا وسيلةً للتحشيد: «مقاومون جدد»... في معركة الوعي أيضاً

أخبار عربية ودولية

الجمعة، ٧ أكتوبر ٢٠٢٢

 تشهد الضفة الغربية المحتلّة، في سياق حالة المقاومة المتصاعدة فيها، ظواهر يجدها العدو ذات دلالة كبيرة، لا بالبعدَين الأمني والعسكري فقط، بل وأيضاً على مستوى معركة الوعي التي يَجهد «المقاومون الجدد» في تعزيز أوارقهم فيها. وفي هذا الإطار، تَبرز ظاهرة الرسائل الصوتية التي يدْأب المطارَدون على البعْث بها إلى الجمهور الفلسطيني في عزّ اشتباكهم مع قوات الاحتلال، كما وتصويرهم المواجهات التي يخوضونها والعمليات التي ينفّذونها، ومن بينها إطلاق النار على مسيرة للمستوطِنين قرب «مستوطنة إيتمار». وإلى جانب دور تلك الرسائل في تعزيز الحالة المعنوية للفلسطينين، وتزخيم العمل المقاوم، فهي لها أثرها في المقابل في ترهيب المستوطِنين، شأنها شأن أدوات الضغط الأخرى لدى مجموعة «عرين الأسود» - خصوصاً -، التي باتت تمثّل عامل أرق للمنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية
دائماً ما حملت رسائل المقاومين في لحظات الاشتباكات الحاسمة مع العدو، معانيَ عالية الكثافة، تبْقى محفورة في الذاكرة لسنوات، باعتبارها نهجاً وعقيدة نضالية أكثر منها كلمات وداعية. نموذج من ذلك مثلاً، رسالة الشهيد إبراهيم النابلسي قُبيل استشهاده، حيث قال: «أنا هاستشهد اليوم. أنا بحبك يا أمي. حافظوا على الوطن بعدي. أنا محاصر ورايح استشهد. أوصيكم يا شباب ما حد يترك البارودة». والوصيّة بالوصيّة تُذكر؛ إذ تابع الفلسطينيون، مساء الأربعاء، اشتباكاً مسلّحاً دامَ لساعات بين مقاومين وجنود الاحتلال، على الهواء مباشرة، في بلدة دير الحطب قرب نابلس، بعد محاصرة الجنود المطارَد سلمان عمران. سار سلمان على درْب رفيقه النابلسي - وهما ابنا مجموعة «عرين الأسود» -، مكثّفاً خلال معركته البعث بالرسائل الصوتية إلى الفلسطينيين، وأُولاها: «أنا سلمان عمران، محاصَر داخل المنزل، شباب سامحونا جميعكم، ومَن استطاع القدوم لمساعدتنا فلْيفعل، نسأل الله القبول ونسأل الله الشهادة».
وحُوصر عمران في منزل مكوَّن من عدّة طبقات، حيث خاض مواجهة مع قوات الاحتلال لأكثر من 3 ساعات، خرج خلالها «أسود العرين» لدعمه، من مدينة نابلس ومخيّماتها وقراها. وفي رسالة ثانية بعث بها تحت أزيز الرصاص، دعا المقاوم «الجميع إلى عدم التخلّي عن الوطن»، قائلاً: «الوطن ليس لي وحدي، الوطن للكلّ، وإسرائيل احتلّت أرضنا كلّنا». وعلى رغم أن أمنيته في الشهادة لم تتحقّق، إلّا أنه يُشهد له بشجاعته في الاشتباك والمناورة، إذ لولا نفاد ذخيرته لم يكن الاعتقال نهايته. واضطرّ سلمان للاستجابة لضغوط عمّه ووالدته لتسليم نفسه وهو مصاب بعدّة شظايا في جسده، في حين استشهد الشاب علاء الزغل (21 عاماً) برصاصة في الرأس، وجُرح جنديان من «قوّة اليمام» الإسرائيلية لم تتّضح طبيعة إصابتهما، علماً أنه هرعت إلى البلدة 4 مركبات إسعاف إسرائيلية، في ما قد يؤشّر إلى وجود أكثر من إصابتَين في صفوف الجنود. وفي رسالة ثالثة قبيل نفاد ذخيرته، وجّه عمران سهام انتقاداته إلى السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية، قائلاً: «إن المقاومين بين احتلالَين، الاحتلال الإسرائيلي الذي يريد أن ينسينا أرضنا وعقيدتنا ويعتقلنا، وأجهزة أمن السلطة التي شلّت عرضنا»، مضيفاً: «نحن نتقي الله فيهم، بس همي ما اتقوا الله فينا، نسأل الله أن يأخذ العقاب منهم».
وعاد الاشتباك الذي خاضه سلمان، بذاكرة الأهالي إلى آخرَ مماثلٍ خاضه عمُّه الشهيد حامد عزت عمران عام 2002 مع جنود الاحتلال، عند الشارع الالتفافي الذي يصل مستوطنة «ألون موريه» الجاثمة على أراضي القرية والقرى المجاورة. وفي عام 2003، استشهد نور عمران (12 عاماً)، شقيق سلمان، أثناء مشاركته في مواجهات مع قوات العدو في مدينة نابلس، وقد سبقهما في ذلك والدهما الذي استشهد عام 1989 في البلدة نفسها. ويمتاز سلمان بصلابة المقاتلين وشراستهم، وهو خَبِر تجربة النضال باكراً، إذ اعتُقل لأوّل مرّة في سجون الاحتلال عام 2004 لمدّة عامَين، قبل أن يُعاد اعتقاله ثلاث مرّات لفترات متفاوتة، إلى جانب الملاحقة المستمرّة من قِبَل الأجهزة الأمنية. وتتّهمه السلطات الإسرائيلية بالوقوف خلْف عملية إطلاق النار التي استهدفت حافلة ومركبة للمستوطنين قبل أيام قرب مستوطنة «ألون موريه» وأدّت إلى إصابة مستوطِن. وأعلنت مجموعة «عرين الأسود»، عقب اعتقال سلمان، أن الأخير هو أحد أبنائها، وأنه كان «المطارَد المشتبِك»، و«خير وأشرس الرجال، الذي قاتل إلى آخر الرصاص»، مضيفة أنه «لم يسلّم نفسه إلّا مكرَهاً بعد نفاد الذخيرة وحفظاً لعائلته، فخرج مرفوع الرأس مؤمناً بقضاء الله وقدره».
ودأب المقاومون الذين وسّعوا من عمليات استهداف الجنود والمستوطنين في شوارع الضفة الغربية أخيراً، وتعهّدوا بحظر التجوال عليهم، على تسجيل وصاياهم، أو إرسال مقاطع صوتية لهم خلال اشتباكهم مع قوّات العدو أو محاصرتهم، وتصوير عمليات إطلاق النار، كرسائل يَعتقدون أنها ذات أهمّية في حرب الوعي التي يخوضونها ضدّ دولة الاحتلال ووسائل إعلامه، على الرغم من فارق الإمكانات. ونجحت تلك الرسائل، في الكثير من الأوقات، في تحقيق هدفها، سواءً بحشْد الدعم والإسناد وتعزيز الحاضنة الشعبية للمقاومين، أو بتزخيم العمل المقاوم وتأثيراته. ولعلّ ما رافق عمليّتَي إطلاق النار قبل أيام بالقرب من مستوطنة «إيتمار»، في فترة زمنية متقاربة، أثناء مسيرة للمستوطنين كانت تحت حماية قوات الاحتلال، يمثّل ترجمة لتلك المعادلة، حيث جرى نشْر صورة لرئيس «مجلس المستوطنات الإقليمي» وهو مختبئ خلْف مركبة هرباً من النار.
والظاهر أن الإعلام العبري، الذي يُعدّ إحدى أذرع المؤسّسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، بدأ يدرك المعادلة المُشار إليها وأبعادها، إذ قال الصحافي الإسرائيلي المختصّ بالشأن الفلسطيني في فضائية «كان» العبرية، أليؤر ليفي، إن ما «يريده مقاتلو عرين الأسود هو إفقاد المستوطنين شعور الأمن والأمان في شوارع الضفة الغربية، يريدون صوراً كتلك التي ظهر فيها رئيس مجلس المستوطنات وهو مختبئ خلف مركبة»، مضيفاً أن المقاومين «يدركون أهمّية الوعي والرأي العام، ولهذا يوثّقون بالصوت والصورة عمليات إطلاق النار، ويوزّعونها بجودة عالية مع شعارهم البارز، كما يرتدون زيّاً موحّداً من دون أيّ شعار لأيٍّ من الفصائل، فلم يَعُد لديهم لا كتائب الأقصى ولا كتائب القسام ولا الجهاد». وفي السياق نفسه، يمكن إدراج ما حصل في البلدة القديمة في مدينة نابلس قبل أيام، حيث احتَجز المقاومون مستوطنِتَين وأولادهما، من دون أن يمسّوا بهم أو يتعرّضوا لهم، ليسلّموهم لاحقاً للأجهزة الأمنية الفلسطينية التي قامت بدورها بتسليمهم لجيش الاحتلال. وقالت مجموعة «عرين الأسود» بشأن جزئيّة التعامل مع النساء والأطفال: «نقول للاحتلال قاتل الأطفال والنساء، نحن لسنا قتَلة، ونقول لكلّ مستوطِن غادر طرقات الضفة، إننا لن نتعامل معك مثلما تعاملنا مع هؤلاء الدخيلات، وإن الله لا يهدي كيد الخائنين».
وإلى تلك المعاني الكثيفة التي يجسّدها المقاومون في قتالهم، تَبرز لاشتباك دير الحطب دلالات عسكرية مهمّة، توضع في سياق تَطوّر حالة المقاومة في الضفة، لعلّ أهمّها تَمكّن المطارَدين من الانتقال من الدفاع إلى الهجوم، إذ إن سلمان عمران استطاع، قبل اعتقاله، تنفيذ عملية فدائية في منطقة تضمّ حاجزاً عسكرياً وأبراج مراقبة، كما استهدف حافلة ومركبة للمستوطنين. كذلك، تُسجَّل قدرة المقاومين على الانتقال من بقعة جغرافية إلى أخرى لإسناد بعضهم البعض، على رغم كلّ القيود التي يفرضها الاحتلال. واللافت أن هذه المشاهد باتت شبه يومية، إذ سُجّلت خلال الساعات الـ24 الماضية، 22 حادثة استهدفت قوات الاحتلال والمستوطنين، تنوّعت ما بين اشتباكات مسلّحة وعمليات إطلاق نار ورشْق بالزجاجات الحارقة، وإلقاء عبوات ناسفة محلّية الصنع، ما دفع سلطات العدو، أمس، إلى دراسة الاستمرار في حالة التأهّب العالية، في ظلّ ورود إنذارات من وقوع مزيد من العمليات. وبحسب «الشاباك»، فقد نُفّذ 172 هجوماً في شهر آب في الضفة، منها 23 عملية إطلاق نار، فيما في أيلول ارتفع العدد إلى 212 عملية، 34 منها إطلاق نار، أي بمعدّل واحدة على الأقلّ يومياً. وكانت «عرين الأسود» أكدت أن «كلّ هدف ثابت أو متحرّك يتنفّس هو هدف لبنادقنا وعبواتنا الناسفة، بل أبعد من ذلك هو هدف لمفاجآتنا»، وهو ما يعني الانتقال الى مرحلة خروج «الأسود» من عرينها، إلى الشوارع والطرقات.
ومع اتّساع رقعة عمليات المقاومة، كثّف إعلام الاحتلال تسليطه الضوء على مجموعات «عرين الأسود» وعناصرها، في محاولة لتحليل الظاهرة التي باتت تؤرّق المنظومة الأمنية والعسكرية، إذ قال موقع «واللا»، الخميس، إن «المجموعة تتكوّن من أسرى محرَّرين من الفصائل والتنظيمات كافة، قرّروا مواجهة الاحتلال الإسرائيلي سويّة، وقد تلقّوا دعماً شعبياً واسعاً. وعلى رغم تعرُّض العديد من مؤسِّسي المجموعة مثل أدهم الشيشاني ومحمد الدخيل وأشرف المبسلط، وفي وقت لاحق إبراهيم النابلسي، للاغتيال، إلّا أن «عرين الأسود» استمرّت في العمل، بعد نجاحها في تجنيد عناصر جُدد لتنفيذ عمليات فدائية.=