عام على انعتاق أفغانستان: أميركا من الغزو إلى التجويع

عام على انعتاق أفغانستان: أميركا من الغزو إلى التجويع

أخبار عربية ودولية

الأربعاء، ٣١ أغسطس ٢٠٢٢

لم تُسامح الولايات المتحدة الأفغان على مقاومتهم العنيدة لاحتلالها بلادهم، والتي امتدّت 20 عاماً، وانتهت بانسحابها المذلّ منها. انفردت الحروب الأميركية عن غيرها من الحروب الاستعمارية التي سبقتْها، باستخدامٍ منقطعِ النظير للقوّة النارية، ولتقنيات التدمير والقتل الواسع النطاق، لإلحاق أكبر قدْر ممكن من الخسائر بالأرواح والممتلكات والبُنى التحتية في البلدان المستهدَفة، وتحويلها إلى بلدان منكوبة. مراجعة ما قامت به في فيتنام، ومن ثمّ في العراق، حيث استهدفت السكّان وليس القوى النظامية أو حركات المقاومة وحدها، وأنواع الأسلحة التي لجأت إليها، تكشِف الغايات الحقيقية لقادتها السياسيين والعسكريين. سبق لفرنسا ولبريطانيا أن استخدمتا "النابالم" - الأولى في حرب الجزائر، والثانية في ماليزيا -، لكنّ الولايات المتحدة لجأت إليه، وإلى "العامل البرتقالي"، وهو مادّة فتّاكة لحرْق الغابات والمساحات المزروعة، على نطاق أوسع بما لا يُقاس. أمّا في العراق، فهي أضافت إلى ترسانتها الذخائر التي تحتوي على اليورانيوم المنضّب. "ميزة" هذه الأسلحة، التي باتت معروفة للقاصي والداني منذ زمن بعيد، فضلاً عن قدراتها الفتّاكة، هي ما تُخلّفه من تلوّث مستديم في البيئة، ومن تداعيات مروّعة على صحّة السكان. من بين تلك التداعيات التي عانى منها الفيتناميون لأجيال، وما زال العراقيون يعانون منها، ارتفاع هائل في معدّلات الإصابة بأنواع مختلفة من مرض السرطان، وأمراض مزمنة ومستعصية أخرى، وتكاثُر ولادات أطفال مشوّهين، جُلّهم يولدون ميتين أو مصابين بعاهات دائمة.
لم تكن "الآثار الجانبية" لهذه الأسلحة لتغيب عن بال صُنّاع القرار الأميركيين، بل هم أمروا باستعمالها عن سبْق إصرار وتصميم، كشكل من العقاب المرعب لِمَن تجرّأ على مجابهتهم. يردّ البعض، كالخبير الاستراتيجي الفرنسي آلان جوكس، في كتابه "أميركا المرتزقة"، أو المفكّر السويدي سفين لينكفيست، في مؤلَّفه "تاريخ القصف الجوّي"، هذا التوحّش المنفلت من عقاله، إلى الظروف التاريخية التي حكمت تكوُّن الثقافة الاستراتيجية لأمّة مستوطنين، أُسِّست عبر إفناء السكّان الأصليين. السعي لإفناء الخصم، أو التلويح الدائم بمِثل هذه القدرة، وليس الاكتفاء بمجرّد هزيمته، هو المنطق العميق الذي يفسّر قرار القصف النووي لهيروشيما وناغازاكي، وحروب "الصدم والترويع" في فيتنام وأفغانستان والعراق، واعتماد سياسات الحصار والتجويع بحقّ شعبَي البلدَين الأخيرَين. والأنكى في الحالة الأفغانية الراهنة هو مُضيّ واشنطن في سياسة التجويع بعد النهاية الرسمية للحرب، وانسحاب المحتلّين الأميركيين.
صناعة كارثة إنسانية
الكارثية الإنسانية التي حلّت بأفغانستان هي مِن هندسة وصناعة الولايات المتحدة. الأخيرة هي المسؤول الأول عمّا جرى لهذا البلد منذ أكثر من 40 عاماً. هي التي حوّلته بداية إلى ساحة حرب مع السوفيات منذ عام 1980، بعد أن تمّ استدراجهم إليه لاستنزافهم، وفقاً لما أقرّ به زبيغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي للرئيس الأميركي جيمي كارتر، والرجل الذي بلور هذه الاستراتيجية. وبعد 10 سنوات من النزاع المستعر والدامي، تمتّع خلالها "المجاهدون الأفغان" بدعم واشنطن وحلفائها، انسحب السوفيات في عام 1990، ودخلت أفغانستان في غياهب النسيان، لتعود أولويةً مرّة أخرى بعد عمليات 11 أيلول 2001، وحرب الـ20 سنة التي تلتها. أيّ نقاش ينطلق من لوْم الضحايا - وجميع الأفغان بمعنًى ما، بمَن فيهم "طالبان"، ضحايا 4 عقود من الإجرام الأميركي -، ويتجاهل الدور الطاغي للولايات المتحدة في دمار أفغانستان، والويلات والمآسي التي ما زالت تصيب شعبها إلى الآن، وخراب اقتصادها، لا طائل منه. فتناوُل الكارثة الإنسانية من خارج السياق التاريخي والجيوسياسي، أي حالة الحرب الدائمة بفعل السياسة الأميركية، وتجاهُل قرارات الإدارة الأميركية التي اتُّخذت بالتزامن مع انسحاب قوّاتها العسكرية، وأدّت إلى انهيار القطاع المصرفي والاقتصاد، هو مساهمة في حملات التضليل الإعلامي التي تقودها تلك الإدارة.
على أن هذه الحملات لم تمنع من أن تكون الولايات المتّحدة المتّهَم الأوّل بالمسؤولية عن الكارثة الإنسانية من قِبَل منظّمات حقوق الإنسان، كـ"هيومان رايتس ووتش" مثلاً، العزيزة على قلْب الليبراليين العرب والأجانب، أو تلك التابعة للأمم المتحدة، كـ"برنامج الغذاء العالمي". ففي تقرير نُشر على موقع الأولى في الرابع من الشهر الحالي بعنوان "الأسباب الاقتصادية لكارثة أفغانستان الإنسانية"، ذكرت المنظمة أن "اقتصاد أفغانستان اعتمد بنسبة 75% على المساعدات الخارجية. وبعد سيطرة حركة طالبان على البلاد في 15 آب 2021، قامت الدول المانحة بقيادة الولايات المتحدة بالطلب من البنك الدولي قطْع مساعدات دولية بقيمة مليارَي دولار، كانت مخصَّصة لدفع أجور ملايين الأساتذة وعمّال القطاع الصحّي، وقطاعات حيوية أخرى… ما أفضى الى حرمان ملايين الأفغان من مصدر دخلهم الرئيسي". وبحسب "الغذاء العالمي"، فإن الغالبية العظمى من الأُسر لم تَعُد تمتلك دخلاً، أو انخفض دخْلها بشكل كبير.
الخطوة الثانية التي كانت لها مفاعيل كارثية على القطاع المصرفي والاقتصادي، هي إلغاء أوراق اعتماد البنك المركزي الأفغاني من قِبَل الولايات المتحدة والحكومات الغربية و"البنك الدولي"، ما يمنعه من التعامل مع النظام المصرفي العالمي، والمؤسّسات المالية الدولية كـ"صندوق النقد الدولي" و"البنك الدولي" و"بنك التنمية الآسيوي". إضافة إلى ذلك، ووفقاً لتقرير "هيومان رايتس ووتش"، فقد "وقّع الرئيس جو بايدن على قرار تنفيذي في 11 شباط 2022 لمصادرة أو تجميد موجودات أفغانستان في الولايات المتحدة، وهي بقيمة 7 مليارات دولار، ونقلها إلى البنك المركزي الفيدرالي في نيويورك". وقد قُسّم هذا المبلغ بعد ذلك إلى جزءَين: 3,5 مليارات دولار خُصّصت لفتْح حساب باسم البنك المركزي الأفغاني، لكنّ الأخير لا يستطيع استخدامه لأن حكومة الولايات المتحدة لا تعترف بمُمثّليه؛ والجزء الآخر، أي 3,5 مليارات، تمّ وضعه في حساب مجمَّد قد يتيح لعائلات ضحايا 11 أيلول 2001 الحصول على تعويضات. هذه القرارات والخطوات بمجملها أفضت إلى انهيار اقتصادي في أفغانستان وما استتبعه من كارثة إنسانية.
القتل بسلاح الجوع
ينبّه "برنامج الغذاء العالمي" إلى أن 90% من الأُسر في أفغانستان لا تحصل على غذاء كاف، وأن حوالى 20 مليون إنسان، أي نصف عدد السكّان يعانون من المستوى 3 من انعدام الأمن الغذائي، المصنَّف "أزمة"؛ أو 4 أي "حالة طوارئ"، أو 5 المعتبَر "كارثياً"، لأنه المستوى الذي تليه المجاعة. أمّا "منظّمة الصحّة العالمية" فقد أشارت الى أن عشرات آلاف الأطفال يُستقبلون شهرياً في أقسام الطوارئ في المستشفيات للخضوع للعلاج من تبعات سوء التغذية، فيما أكثر من مليون طفل تحت سنّ الخامسة، وهي فئة عمرية معرَّضة للموت السريع في حال حرمانها من الغذاء، يعانون من أعراض سوء التغذية المزمن. ونبّهت "لجنة الإنقاذ الدولية"، من جهتها، في بيان أصدرته في بداية هذا العام، إلى أن "عدم إيجاد حلول للأزمة الإنسانية الحالية قد يؤدّي إلى عدد من الوفيات يفوق ما قد ينجم عن 20 سنة من الحرب".
هكذا، انتقاماً من الشعب الأفغاني الذي ألحق بها هزيمة مذلّة، قامت واشنطن باستخدام نفوذها وترسانة أدواتها القانونية والاقتصادية لصناعة كارثة إنسانية في بلد يسوده خراب عميم بفعل سياساتها. سيسارع البعض إلى الحديث عن انعدام كفاءة "طالبان" وقصور درايتها بشؤون الحُكم، وعن قسوتها وتَخلّفها، وحتى عن أشكال لِحى رجالها وأزيائهم، وعن البرقع الذي تفرضه على النساء. هذه الحجج وغيرها، والتي تندرج في إطار منطق "لوم الضحايا" الاستعماري التقليدي، لن تنجح في حجب المسؤولية الأولى والأخيرة لدولة الجريمة المنظَّمة، المستعمِرة الكبرى الحديثة النشأة، الولايات المتحدة الأميركية، عن مأساة الشعب الأفغاني منذ أكثر من 40 عاماً.