الديموقراطيات المأزومة: حرب أوكرانيا لا تنقذ العاجزين

الديموقراطيات المأزومة: حرب أوكرانيا لا تنقذ العاجزين

أخبار عربية ودولية

الجمعة، ٨ يوليو ٢٠٢٢

لم توفّر حرب أوكرانيا شرعيّة تعويضية لمَن حاول، بين الزعماء الغربيين، توظيفها لهذه الغاية. آخر مثال على هذا الواقع، هو الاستقالة المفروضة لبوريس جونسون، رئيس الوزراء البريطاني، بعد انقلاب معظم وزرائه وأعضاء مجموعته البرلمانية عليه، إضافة طبعاً إلى معارضة خصومه السياسيين وقطاعات واسعة من الرأي العام في البلاد لبقائه في منصبه. لجوء المسؤولين المنتخَبين في الديموقراطيات الغربية إلى استخدام السياسة الخارجية والأزمات الدولية كرافعة لتعزيز شعبيتهم في داخل بلدانهم، ومحاولة ضمان فرص إعادة انتخابهم، لا يمثّل خروجاً عن المألوف، لكنّه بات يتّخذ منحىً جديداً، وخطيراً، مع أزمة المشروعيّة التي تزداد حدّة في بعض هذه الديموقراطيات. التصعيد المسعور ضدّ روسيا بقدْر ما يأتي ترجمة لاستراتيجية غربية تهدف إلى حصارها وإضعافها، يعكس أيضاً بحثاً محموماً عن شرعية تعويضيّة من قِبَل مسؤولين منتخَبين، نتيجة فقدانهم للشرعية الداخلية، بسبب تورّطهم في فضائح متتالية، كما هي حال جونسون، أو لعجزهم عن الإيفاء بوعودهم الانتخابية، كما هي حال جو بايدن. بكلام آخر، يعتقد هؤلاء القادة الغربيون أن التعبئة العامّة ضدّ عدوّ خارجي ستسمح بإعادة تشكيل الإجماع الداخلي، وبالتفاف شعوبهم حولهم. غير أن المواقف المزايِدة لجونسون، حتى على الموقف الأميركي، ضدّ روسيا، لم تَحُل دون سقوطه، تماماً كما لم تنعكس تلك التي أطلقها بايدن تحسُّناً في معدّلات شعبيته المنهارة. وبات من الواضح أن التداعيات الاقتصادية للحرب الدائرة في أوكرانيا، ستزيد من الاختلالات والتصدّعات الاجتماعية والسياسية الداخلية في دول الغرب، مع ما يترتّب على ذلك من نتائج شديدة السلبية بالنسبة إلى النخب الحاكمة.
كشفت الأزمة السياسية التي شهدتها بريطانيا في الأيّام الأخيرة، والتي أفضت إلى إجبار رئيس وزرائها على الاستقالة، تشابهاً إلى حدّ التطابق بينه وبين الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب. فالتمسُّك المَرَضي بالسلطة، في مواجهة المعارضين والموالين، والضرْب عرض الحائط بقواعد النظام السياسي السائد وأعرافه، وكذلك عدم الاكتراث تماماً برأي الآخرين، هي جميعها سمات مشتركة بين الرجلين. فردريك شاريون، الخبير الفرنسي في العلاقات الدولية، رأى في مقال في يومية «لوبينيون» بعنوان «اختفاء الانتصار»، أن السياسة ارتكزت تاريخياً، على الصعيدَين الدولي والمحلّي، وفقاً للمفكّر الألماني كارل شميدت، إلى ثنائيتَين: ثنائية العدوّ والصديق، وثنائية الانتصار والهزيمة. على المستوى المحلّي، وفي ما يتعلّق بالتداول على السلطة والعمليات الانتخابية، قام النظام الديموقراطي على قاعدة إقرار الخاسر في الانتخابات بهزيمته وبانتصار منافسه، والتصرّف وفقاً لما تمليه قواعد عمل النظام. غير أن ما يلحظه شاريون في السنوات الأخيرة، هو اتّجاه متزايد إلى «رفْض الاعتراف بنتائج الانتخابات وبانتصار المنافسين إن حصل. أمثال دونالد ترامب، وهو نموذج للخاسر السيئ، الذين يعدن بالفوضى في الشوارع أو في البرلمان في حال عدم انتخابهم، باتوا كثراً. عدم احترام قواعد العَقْد الديموقراطي، أصبح جليّاً». مسعى جونسون، حتى اللحظة الأخيرة، إلى الالتفاف على قواعد عمل الديموقراطية البريطانية «العريقة»، يندرج في هذا السياق المستجدّ الذي يصفه شاريون من دون شرح أسبابه.
وفي الحقيقة، لا يمكن فصْل المَيل المتنامي لدى السياسيين الغربيين للتحايل، بمرونة أو بفجاجة، على قواعد عمل النظام الديموقراطي، عن الاختلالات الاجتماعية والسياسية التي تشهدها بلدان الغرب، والمرتبطة بتراجع موقعه المهيمن عالمياً. هذه التحولات هي التي تفسّر أصلاً وصول ترامب وجونسون إلى السلطة، واحتمالات عودة الأوّل أو مَن يشبهه إليها في 2024. قيام هذا الصنف من السياسيين «الشعبويين» باختراع أعداء وهميين ومحاولة توحيد الجبهة الداخلية ضدّهم، إن كان هؤلاء الأعداء خارج حدود البلاد أو داخلها، هو من أساليبهم المعروفة. غير أن بايدن، الذي وصل إلى السلطة على أساس إعادة النظر بـ«الترامبية»، واعتماد مقاربات أكثر عقلانية حتى في إدارة الخصومة مع الصين وروسيا، أضحى يستلهمها في سياسته حيال الدولتَين. ما يدفعه إلى ذلك، هو الضمور المتسارع في نفوذ الولايات المتحدة العالمي وقدراتها، وعجزه عن إنفاذ وعوده بإنعاش الاقتصاد واتّباع سياسة خارجية لمصلحة الطبقات الوسطى الأميركية، في ظلّ تعاظم دور المنافسين الاستراتيجيين غير الغربيين على النطاق الدولي. ومن النافل قوله إن العجز المذكور، سيُتَرجم داخليّاً هزيمةً لحزبه الديموقراطي في الانتخابات النصفية المقبلة في تشرين الثاني، وفي الانتخابات الرئاسية في 2024، كما تشير معظم التوقعات، في سياق تتعمّق فيه الانقسامات الداخلية التي برزت حيال قانون الإجهاض مثلاً، وأعمال العنف الدموي التي تعرفها المدن الأميركية. يحاول بايدن الظهور بمظهر رئيس حرب يقود معركة وجودية ضدّ «القوى الشمولية» في أوكرانيا، وربّما غداً في تايوان، بحثاً عن شرعيّة تعويضيّة عن الفشل الداخلي، لكن المفاعيل الاقتصادية والاجتماعية لهذه المواجهات، وأوّلها التضخّم المتعاظم وانعكاساتها على ظروف عيْش الأميركيين تأتي على الضدّ من حساباته. لا شكّ في أن هذه المعطيات ترسّخ اقتناع سيّد الكرملين بأنه اختار التوقيت الصائب لشنّ هجومه المضادّ في أوكرانيا.