فرنسا.. نصف انتصار لليسار: خطر فقدان الأغلبيّة يلاحق ماكرون

فرنسا.. نصف انتصار لليسار: خطر فقدان الأغلبيّة يلاحق ماكرون

أخبار عربية ودولية

الثلاثاء، ١٤ يونيو ٢٠٢٢

 سيتعيّن على إيمانويل ماكرون أن يخوض معركة صعبة الأحد القادم، للاحتفاظ بأغلبيّته في البرلمان، بعد أن حقّق ائتلاف أحزاب يسارية بقيادة جان لوك ميلينشون، أداءً ممتازاً في الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية التي جرت أوّل من أمس. وعلى الرغم من نِسب المشاركة المتدنّية، واستطلاعات الرأي التي ذهبت إلى أن الناخبين في الجولة الثانية سيميلون إلى دعم كتلة ماكرون، إلّا أن عودة اليسار إلى قلب صناعة القرار الفرنسي، حتى في دور معارضة قوية، ستعيد إلى السياسة توازناً افتقدته البلاد خلال الولاية الأولى للرئيس النيوليبرالي الهوى، والذي احتفظ دائماً بهيمنة شبه تامّة على قرار البرلمان
بعد أقلّ من شهرين على إعادة انتخابه لولاية ثانية، يواجه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، احتمال تعثُّر فترة رئاسته الثانية، أقلّه في ما يتعلّق بالملفّات الداخلية، وذلك بعد الأداء اللافت لتحالف أربعة أحزاب يسارية يقودها السبعينيّ جان لوك ميلينشون، في الجولة الأولى من انتخابات الغرفة الثانية في الجمعية الوطنية (مجلس النواب)، والتي جرت أوّل من أمس، الأمر الذي يهدّد بفقدان الرئيس النيوليبرالي الهوى سيطرته على الأغلبية التي هيمنت على قرار البرلمان طوال السنوات الخمس الماضية. ووفقاً للنتائج الرسمية، فإن «الاتحاد الشعبي البيئي والاجتماعي الجديد» (ائتلاف حركة فرنسا المتمرّدة والحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي والخضر) حصل على نتيجة 25.26%، بفارق ضئيل عن كتلة ماكرون التي حصلت على 25.75%. ويتمّ انتخاب النواب في جولتَين، حيث تُحدَّد أسماء معظم الفائزين بعد الجولة الثانية التي من المقرَّر أن تَجري الأحد المقبل (19 حزيران).
الأداء القوي لليسار في الجولة الأولى، بعد غياب شبه كلّي عن ملعب السياسة الرسمية في فرنسا لنصف عقد، قد لا يُترجَم بالضرورة إلى عدد مقاعد؛ بالنظر إلى أن نظام الجولتَين يخدم تاريخياً المرشّحين الأقرب إلى الوسط، على حساب الأحزاب المتطرّفة يميناً أو يساراً، إذ غالباً ما يفزع الناخبون من التوجّهات المتطرّفة، ويدفعون إلى استمرار الأوضاع القائمة من دون تغييرات «ثورية»، الأمر الذي قد يصبّ هذه المرّة في مصلحة الرئيس. وعليه، يَتوقّع معهد استطلاعات الرأي «إبسوس» أن تحصل كتلة ماكرون على ما بين 255 و295 مقعداً، مقابل 150 إلى 190 مقعداً لليسار من أصل مجموع المقاعد الـ577. ويحتاج الرئيس إلى 289 مقعداً على الأقلّ للاحتفاظ بالأغلبية (كتلة ماكرون في الجمعية الحالية سيطرت على 345 مقعداً).
ومع أن هذه النتيجة - إن تَحقّقت بالفعل - لن تُمكّن اليسار من الوصول إلى السلطة أو المطالبة بمنصب رئاسة الوزراء كما كان متأمّلاً، إلّا أنه سيشكّل كتلة معارضة قوية، يمكنها، في حال تماسكها، أن تعيق برامج ماكرون الداخلية على الأقلّ - ولا سيّما برامجه للإصلاح النيوليبرالي للاقتصاد ومشروعه المثير للجدل بتأخير سنّ التقاعد إلى 65 عاماً وخطّته لتطوير التعليم المدرسي -، فيما تظلّ ملفّات السياسة الخارجية والدفاع من صلاحيات رئيس الجمهورية. هكذا برلمان سيكون أشبه بهزيمة ثقيلة، وإن متأخّرة، لماكرون، الذي حصل على التجديد لولاية ثانية بعد معركة طاحنة مع ماري لوبان، مرشّحة حزب «الجبهة القومية» اليميني، حصل فيها على أصوات أقلّ بكثير ممّا كان حصل عليه عندما انتُخب رئيساً في عام 2017. ولذلك، فإن تصريح ميلينشون تعليقاً على النتائج بأن «الحزب الرئاسيّ خسر» دقيق إلى حدّ بعيد. وتضرّرت حملة الرئيس الهزيلة أصلاً، من الأخبار السلبيّة في الصحف عن الفشل الذريع لقوات الأمن في السيطرة على الجماهير في نهائي دوري أبطال أوروبا، ومزاعم الاعتداء الجنسي التي طاولت أحد وزرائه، والتكهّنات بأنه لن يشكّل حكومة جديدة في حال حصول كتلته على الأغلبية.
ودعا ميلينشون، الناخبين الفرنسيين، إلى الاستفادة من تراجُع كتلة الرئيس، والاندفاع بقوّة إلى صناديق الاقتراع في الجولة الثانية للتعبير عن «رفض خطط ماكرون الكارثية رفضاً قاطعاً، وإبداء رأيهم بعد ثلاثين عاماً من السياسات النيوليبرالية»، فيما انتقدت إليزابيث بورن، رئيسة وزراء ماكرون، «المتطرّفين» المعارضين لحكومتها من الطرفَين (يساراً ويميناً)، ونبّهت الناخبين إلى أن كتلة الرئيس الوسطيّة «تظلّ القوّة السياسية الوحيدة القادرة على الحصول على أغلبية في الجمعية الوطنية»، وأنه يتعيّن عليهم ألّا يخاطروا بإيصال متطرّفين إلى السلطة «بالنظر إلى الوضع العالمي القلِق، وطبول الحرب التي تُقرع أمام أبواب أوروبا، والتهديدات بعدم الاستقرار». وفي حال كَسر اليساريون التوقّعات، وفازوا بالأغلبية في النتائج النهائية، فسيتعيّن على ماكرون تسمية رئيس وزراء يحظى بتأييد أكثر من نصف النواب، وسيضطرّ حينئذ للتعايش كرئيس ضعيف مع حكومة معادية لسياساته الاقتصادية، وسينتظر دائماً دعم كتلة «الحزب الجمهوري» - يمين - لطروحاته، وهو دعم لن يأتي من دون مقابل. وتنتخب كلّ دائرة جغرافية في فرنسا نائباً عنها، وفي معظم الأحيان تقتصر الجولة الثانية على الاختيار بين مرشّحَين اثنَين لكلّ مقعد – مقارنة باثني عشر مثلاً في الجولة الأولى -. ووفق نتائج جولة الأحد الماضي، فإن غالبية المقاعد التي لم تُحسم ستكون في جولة الإعادة بين مرشّح من كتلة الرئيس مقابل مرشّح من تحالف اليسار.
في المقابل، أظهر اليمين الفرنسي المتطرّف أداءً باهتاً؛ إذ فشل حزب «الجبهة القومية» بزعامة لوبان، في الحصول على أكثر من 18% من الأصوات، مقارنة بأكثر من 41% في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية. لكنه قد يستفيد من نزيف مقاعد كتلة الرئيس لزيادة عدد نوّابه إلى 25 كحدّ أقصى، فيما يُتوقّع أن تتراجع كتلة «الحزب الجمهوري» اليميني - الأكثر اعتدالاً - إلى حدود الـ50 مقعداً، أي نصف حجمها في الجمعية الأخيرة (101 نائب). ولم تنجح أيّ من الأحزاب الأخرى في عبور حاجز الـ5% اللازم للتمثيل في البرلمان وفق القانون الانتخابي السائد. كما يبدو أن ظاهرة إريك زمّور، اليميني المتطرّف على يمين لوبان، قد تبخّرت، إذ خسر هو شخصياً في دائرته الانتخابية في جنوب فرنسا، ولم يَعُد الرجل فعلياً ذا صلة بالمشهد السياسي الفرنسي الجديد.
وعلى غرار العديد من الشعوب الغربية في الديموقراطيات الليبرالية، أقصى الفرنسيون، في السنوات الأخيرة، أحزاب يسار الوسط واتّجهوا يميناً، ومنحت كتل عريضة ثقتها لساسة قوميين متطرّفين وشعبويين. لكنّ هذه العودة الدراماتيكية إلى اليسار الآن، ليست بالضرورة دليل تعافٍ، بقدر ما هي إشارة إلى تكرُّس الانقسام بين ثلاث كتل متساوية (يمين، وسط ويسار)، على نحو يجعل من المستحيل لأيّ منها أن تنفرد بالحكم أو تفرض سياسات حاسمة تُغيّر من الأوضاع القائمة. وفي الحقيقة، فإن أكثر من نصف الناخبين الفرنسيين (47%) لم يكلّفوا أنفسهم عناء الإدلاء بأصواتهم في جولة يوم الأحد، وهذه النسبة، إذا أُخذت مع نسبة الامتناع عن التصويت القياسية في الانتخابات الرئاسية قبل شهرَين (الأدنى منذ انتخابات 1969)، تُعدّ مؤشّراً خطيراً إلى التوسّع المستمرّ لكتلة شعبية مهمّشة، باتت تنبذ مجمل العملية السياسية، ولا ترى في الأحزاب القائمة تمثيلاً لتطلّعاتها.