«بلديّات» بريطانيا: تراجعٌ تاريخي لـ«المحافظين»

«بلديّات» بريطانيا: تراجعٌ تاريخي لـ«المحافظين»

أخبار عربية ودولية

الاثنين، ٩ مايو ٢٠٢٢

عاش «حزب المحافظين» البريطاني الحاكم جمعة سوداء قاسية، بعدما خسر مرشّحوه أكثر من 500 مقعد في المجالس البلدية. وتلقّى الحزب صفعات متتالية، بخسارته مجالس رئيسة في العاصمة لندن، فيما تراجع، وإن بشكل أقلّ، في عدّة مدن خارجها، وكذلك في ويلز واسكتلندا لمصلحة كل الأحزاب الأخرى التي استفادت من غياب بديل حقيقي. لكن الضربة الرمزية الأشدّ جاءت من إقليم إيرلندا الشمالية، حيث حصل حزب «شين فين» الجمهوري التوجهات على الغالبية في البرلمان المحلي
 مني «حزب المحافظين» البريطاني الحاكم، بهزيمة مذلّة في الانتخابات البلدية التي أجريت في نهاية الأسبوع، في 200 من المجالس المحليّة لأقاليم إنكلترا وويلز واسكتلندا. وخسر مرشّحو الحزب حوالى 500 مقعد في هذه المجالس، كما فقدوا السيطرة على 12 مجلساً، خصوصاً في العاصمة لندن، حيث سقطت مجالس واندسوورث ووستمنستر وبارنت في قبضة «حزب العمّال» (أكبر الأحزاب خارج الحكومة)، وهي التي كانت، على مدى عقود، بمثابة معاقل آمنة للمحافظين. وعلى الرغم من محاولة ناطقين باسم الحزب الحاكم، التقليل من أهمية هذه النتائج أو الإشارة إليها بأنها «مختلطة»، إلّا أن أغلب المراقبين متّفقون على أن الناخبين البريطانيين وجّهوا صفعة قاسية لحكومة رئيس الوزراء الحالي، بوريس جونسون، وسياساتها، وأن تصويتهم غلَب عليه الطابع الاحتجاجي، أكثر من كونه متعلقاً بالخدمات المحلية للبلديات.
ولم يخفِ أعضاء من الحزب الحاكم خشيتهم من أن شخص بوريس جونسون أصبح عبئاً على المحافظين، واعتبروا أن بقاءه في المنصب التنفيذي الأهمّ في البلاد، قد يتسبّب بخسارة شبه أكيدة للغالبية (في البرلمان) في أيّ جولة انتخابات عامّة مقبلة (2024). ولم يعد سرّاً أن ما لا يقلّ عن 20 من نواب الحزب في البرلمان يتشاورون وراء الكواليس سعياً إلى بناء كتلة تُسقط جونسون. لكن ذلك يحتاج إلى أصوات ما لا يقلّ عن 40 نائباً محافظاً، وهو نصاب لم يتأمّن بعد، ما يعني أن رئيس الوزراء باقٍ في منصبه حتى آخر لحظة من عمر البرلمان الحالي. وكان جونسون فقد شعبيته التي مكّنته من تحقيق فوز ساحق في الانتخابات التشريعية عام 2019 وتشكيل حكومة غالبية في حينه، بعد أداء باهت في ملفّات داخليّة عدة، وأخيراً بعد الكشف عن ارتكابه وموظّفي مكتبه مخالفات قانونية بالجملة في ما يتعلّق بإجراءات العزل التام التي فرضتها حكومته على البلاد. لكن كثيراً من الناخبين قالوا، في استطلاعات وأحاديث مع الصحف، إن ما يقلقهم بالفعل هو مسألة تدهور الأوضاع المعيشية بسبب التضخّم المفرط (الأعلى منذ 40 عاماً، وفق بنك إنكلترا)، والذي تسارع بشكل ملحوظ منذ بدء الحرب في أوكرانيا.
المقاعد والمجالس التي خسرها المحافظون، تناثرت بين الأحزاب الأخرى من دون صيَغ غالبة لاتجاهات التصويت. وقد كسب «العمّال» - يسار الوسط - 139مقعداً منها، كما 6 مجالس صارت له الغالبيّة فيها، وحصل «الليبراليون الديموقراطيون» على 222 مقعداً وسيطروا على 5 مجالس إضافية. وحقّق «الحزب القومي الاسكتلندي» و»حزب الخضر» نتائج ممتازة، فيما تراجع المحافظون في إقليم اسكتلندا الشمالي إلى المرتبة الثالثة بعد «القومي» و»العمال». لكن أداء الأخير، بدا مدعاة للقلق - خصوصاً خارج العاصمة - لم يكن مقنعاً بما فيه الكفاية للوصول إلى «10 داوننينغ ستريت» في وقت قريب. وفقد الحزب السيطرة على مجلس مدينة هال الذي بقي عمّالياً لأكثر من عقد. ويبدو أيضاً أنه لم يتعافَ بعد من انعكاسات الحرب بين جناحَيه اليميني واليساري، وهو ما قد يفسّر حصول «الليبراليين الديموقراطيين» على نتائج ممتازة، إذ انصرف الكثير من الناخبين عن المحافظين و»العمّال»، وأدلوا بأصواتهم لمصلحة مَن يتحداهم. وقال محللون إن فوز «العمّال» بمجلس مقاطعة بارنت (لندن) حيث تواجد يهوديّ مكثّف دلالة على نجاح يمين الحزب المعارض باستعادة ثقة اللوبي الصهيوني في البلاد، بعد طرْد جيرمي كوربين ورفاقه اليساريين من كل المواقع المؤثرة في القيادة بحجّة مزاعم بمعاداتهم للساميّة.
ومن الجليّ أن هذا التشظي في التصويت ضدّ المحافظين، مردّه إلى غياب بديل حقيقي عن الأحزاب التقليدية المحترفة على يمين ويسار الملكة، يُمَكِّن الجماهير من معاقبة النخبة الحاكمة وإسقاطها في صناديق الاقتراع. وهناك فقدان ملحوظ للثقة بالطبقة السياسية وبالعملية الديموقراطية برمتها لدى الطبقات العاملة، الأمر الذي يدفع بكثيرين إلى الامتناع عن التصويت، أو دعم المرشّح الأقوى الذي يمكن أن يزيح مرشّحي حزب المحافظين.
ولعلّ ما زاد من أجواء الكآبة التي أطبقت على الحزب الحاكم، النتائج الآتية من بلفاست - عاصمة إقليم إيرلندا الشمالية - بعدما تمكّن حزب «شين فين» من الحصول على أكبر عدد من المقاعد في البرلمان الإقليمي هناك، وذلك للمرّة الأولى في تاريخ النظام السياسي الحالي الذي تشكّل عام 1920. ويعتبر الحزب واجهة العمل السياسي لـ»الجيش الجمهوري الإيرلندي» الذي خاض مواجهات دامية مع السلطات البريطانية عبر العقود، سعياً إلى تحرر وإعادة توحيد الإقليم مع جمهورية إيرلندا، وذلك قبل التوصّل إلى اتفاق السلام الشهير في الجمعة العظيمة (1998). وحصل «شين فين» – يسار الوسط - على 27 مقعداً من أصل 90 تشكِّل مجموع مقاعد البرلمان الإقليمي، يليه «الوحدوي الديموقراطي» اليميني الذي يمثّل البروتستانت المؤيدين للندن بـ25 مقعداً، فيما حقّق «حزب التحالف» (وسط) نتيجة ممتازة بحصوله على 17 مقعداً، وتوزعت المقاعد الأخرى على خمسة أحزاب، واثنين من المستقلّين. وتحدثّت نائبة رئيس «شين فين»، ميشيل أونيل - التي ستصبح أوّل (وزير أوّل) جمهوريّ التوجهات يمثّل الإقليم في العلاقة مع العاصمة البريطانية -، عن «لحظة تغيير مهمة للغاية».
على أن الصورة الكليّة لما جرى في هذه الجمعة العظيمة من تصويت احتجاجي واسع، وتقدّم الأحزاب الانفصاليّة في كل من اسكتلندا وإيرلندا الشمالية قد تكون له تداعيات دستورية طويلة الأجل على تماسك المملكة المتحدة، ومتوسطة المدى بتحالف القوميين الاسكتلنديين مع «حزب العمّال» لإزاحة المحافظين من السلطة. لكن لا أحد بدا مدركاً – ربما باستثناء مجلس محليّ وحيد فاز به يساريّون من «العمّال»، لواقع أن أزمة الأكثرية الشعبية في المملكة أقرب لمسائل كسب العيش اليومي منها للاختيار بين مَن يحكمنا من قبائل التحالف الأرستقراطي – البرجوازي الذي يهيمن على البلاد منذ أكثر من 300 عام.