انتخابات الرئاسة الفرنسيّة: ماكرون يبدأ مشواراً صعباً

انتخابات الرئاسة الفرنسيّة: ماكرون يبدأ مشواراً صعباً

أخبار عربية ودولية

الثلاثاء، ١٢ أبريل ٢٠٢٢

تسود واشنطن، كما بروكسل، حالةٌ من القلق ستستمرّ لأسبوعين مقبلين على الأقل، بعدما تأهّلت مارين لوبان لخوض الجولة الثانية والنهائيّة من الانتخابات الرئاسية الفرنسية (24 نيسان الحالي)، في مواجهة مرشّح المنظومة، إيمانويل ماكرون. ويمكن لانتصارٍ محتمل للوبان، المتعاطفة مع روسيا، أن يزعزع استقرار التحالف الغربي في حربه ضدّ موسكو، ويقلب دور باريس كقوة أوروبية رئيسة، وربما يمنح قادة دولٍ غربيّة أخرى مساحة للمشاغبة في وجه الولايات المتحدة و»الناتو»
بناءً على نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسيّة الفرنسية، التي أجريت أول من أمس، تأهّل الرئيس الحالي، إيمانويل ماكرون - يمين الوسط - إلى الجولة النهائيّة التي ستجرى في 24 نيسان، بعدما حصد 27.6 في المئة من الأصوات، بفارق أربع نقاط عن ماري لوبان، مرشّحة حزب «الجبهة الوطنية» – اليميني المتطرّف - التي حصلت على 23.4 في المئة من الأصوات، متقدّمة بفارق ضئيل على جان لوك ميلانشون، مرشّح اليسار المتطرّف (22 في المئة من الأصوات). وتعزّز هذه النتائج تحليل سياسيي اليمين الفرنسي، الذين يزعمون أن المجتمع الفرنسي تجاوز الانقسام التقليدي بين اليسار واليمين حول القضايا الداخلية، والذي هيمن على سياسات ما بعد الحرب العالميّة الثانية. وبرأيهم، فإنّ مردّ ذلك تفتّت اليسار وعقمه، وانتقال الحراك الاجتماعي نحو معركة داخل اليمين، بين القوميين المتطرّفين المناهضين للهجرة، الذين ستمثّلهم في الجولة المقبلة مارين لوبان، والليبراليين التقدّميين المؤيّدين لأوروبا موحّدة، والمنفتحين على العولمة الأميركيّة، وممثّلهم الرئيس إيمانويل ماكرون.
وبالفعل، فقد حصل كلا المرشحين، ماكرون ولوبان، على نتائج أفضل ممّا حقّقاه في الجولة الأولى من انتخابات عام 2017، وارتفع تأييد ماكرون من 24 في المئة إلى ما يقارب 28 في المئة، هذا الأحد، فيما حصدت لوبان أكثر من 23 في المئة من مجموع الأصوات، مقارنة بـ21 في المئة قبل خمس سنوات. وارتفعت شعبية لوبان، بشكل حادّ على مدى الأسبوعين الماضيين، حيث خفّفت من حدّة بعض خطاباتها الأيديولوجيّة للتركيز على قضايا ارتفاع تكلفة المعيشة. ويكافح الملايين في فرنسا لتغطية نفقاتهم، بعد ارتفاع أسعار الخدمات العامّة والغاز والنفط إلى أرقام قياسيّة، لا سيّما إثر توافق معظم الغرب على فرض حصار اقتصادي على روسيا، كردٍّ على العمليّة العسكريّة في أوكرانيا. ولكن المُقلق لمعسكر ماكرون، هو أن الكتلة اليمينية المتطرّفة - المكوّنة من لوبان، وإريك زيمور، والقومي نيكولاس دوبونت إيجنان - حصلت على أكثر من 30 في المئة من إجمالي الأصوات، ممّا يشير إلى أنّ ثلثي الفرنسيين يخوضون، بالفعل، صراعاتهم السياسيّة داخل فضاء يميني. وكان أكبر الخاسرين في الجولة الأولى، المذيع التلفزيونيّ إريك زيمور (63 سنة)، ذو الأصول اليهوديّة الجزائرية والمُعادي بشدّة لما يسمّيه أسلمة المجتمع الفرنسي، والذي حصل بالكاد على تأييد 7 في المئة من الناخبين، بعدما جرى الحديث طوال العام الماضي عن إمكانية تأهّله للجولة الثانية، لمواجهة ماكرون وعلى حساب لوبان تحديداً. وسارع الرجل إلى الاعتراف بالهزيمة، داعياً مؤيّديه إلى منح ثقتهم للوبان، على رغم صراعه المرير معها خلال الحملة الانتخابية. وإذا توحّدت بقيّة قوى اليمين المتطرّف وراء لوبان، فإن ماكرون سيجد نفسه في مواجهة كتلة متماسكة لن يسهُل الانتصار عليها، لا في جولة الإعادة ولا في الانتخابات التشريعيّة - بعد شهرين.
في المقابل، قدّم جان لوك ميلانشون أداءً قوياً مفاجئاً، فحلّ ثالثاً، وكاد يسبق لوبان إلى الجولة النهائيّة، بعدما حصد معظم الأصوات ذات الميول اليسارية في البلاد. وعانى ميلانشون، بداية، من تفتّت اليساريّين، لكنّه تقدّم باطّراد في استطلاعات الرأي، في الأسابيع القليلة الماضية، على المرشّحين الآخرين، بمن فيهم الشيوعي فابيان روسيل، ويانيك جادوت من حزب «الخضر»، وذلك بعدما بدا أنّه المرشّح اليساري الوحيد الذي يطرح سياسات يفهمها الفرنسي العادي. على الضفّة الأخرى، يمكن الحديث، الآن، عن موت نهائي لأحزاب السلطة التقليديّة في فرنسا، «الاشتراكيون» و»الجمهوريون»، بعدما حصل مرشّحوهما مجتمعين على أقل من 7 في المئة من الأصوات. وسجّلت فاليري بيكريس، التي مثلت حزب «الجمهوريين»، أقل من 5 في المئة، وهي أدنى نتيجة لحزبها في تاريخه؛ أما عمدة باريس الاشتراكية، آن هيدالغو، فلم تستطِع الوصول إلى 2 في المئة، وهي نتيجة أقل بثلاث مرّات من السقوط التاريخي للمرشح الاشتراكي، بينوا هامون، في انتخابات عام 2017. ومن المرجّح أن يفشل كلا الحزبين في تجاوز عتبة 5 في المئة، اللازمة للتمثيل في البرلمان عند إجراء الانتخابات التشريعيّة تالياً. وفي ما يتعلّق بالكتلة الصامتة ممّن يحقّ لهم التصويت، والذين امتنعوا عنه، فقد بلغت حوالى 26% من المجموع الكلّي للناخبين، بزيادة عن أرقام انتخابات عام 2017 (23%). لكنّها بقيَت أقل ممّا كان متوقّعاً، مع شعور كثيرٍ من الفرنسيين باليأس من العمليّة السياسيّة برمّتها. وبشكل عام، فإنّ الامتناع عن التصويت خدَم تاريخياً مرشّحي اليمين المتطرّف.
نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الفرنسيّة، التي جاءت بشكل عام وفق توقّعات المراقبين المحلّيين، تسبّبت بقلق متزايد داخل إدارة الرئيس جو بايدن، كما المفوضيّة الأوروبيّة في بروكسل، وخصوصاً بشأن تقارُب استطلاعات الرأي لاتّجاهات التصويت في الجولة النهائية، بين الرئيس ماكرون (53%) ومنافسته لوبان (47%). ومن شأن انتصارٍ ممكن للأخيرة، المتعاطفة مع موسكو، أن يُزعزع استقرار التحالف الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد روسيا، ويقلب دور باريس كقوة أوروبية فاعلة رأساً على عقب، وربما يمنح قادة دولٍ غربيّة أخرى مساحة للمشاغبة في وجه الولايات المتحدة و»الناتو». وعلى الرغم من أن لوبان نأت بنفسها، إلى حدّ ما، عن الرئيس الروسي منذ غزو أوكرانيا، إلّا أنّها تحدّثت بتعاطفٍ عن مبرّرات العمليّة العسكرية في أوكرانيا، وجاهرت برفض بعض إجراءات الحصار الاقتصادي المتشدّدة التي اتّخذها التحالف الغربي ضدّ موسكو، داعية إلى النظر في المصلحة الذاتية للفرنسيين، قبل التسرُّع في مقاطعة واردات النفط والغاز الروسيين. أيضاً، سيضع فوز لوبان الاتحاد الأوروبي أمام أكبر أزمة له، منذ خروج بريطانيا، ويعزّز مواقف دولٍ مشاغبة، مثل هنغاريا، التي جدّدت الأسبوع الماضي لليمين. والسيناريو الأسوأ، وفقاً لمسؤولين في البيت الأبيض، هو أن تفوز لوبان وتقرّر انسحاب فرنسا من التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة. فمن المعروف أن باريس دعمت الأوكرانيين بالأسلحة والمساعدات، لكنّها بقيت صامتة حيال ذلك، ورفضت دائماً الكشف عن التفاصيل. واستمرّ ماكرون بالتواصل مع بوتين، كـ»وسيط نزيه»، في محاولة لتحقيق اختراق ما. بالتالي، تخشى واشنطن من أن وصول لوبان إلى الإليزيه قد يخلّ بهذا التوازن الدقيق، ويؤثّر في مواقف الدول الأوروبيّة الأخرى، التي لا تريد الذهاب بعيداً في الحرب مع روسيا من أجل أوكرانيا، مثل ألمانيا والنمسا وهنغاريا، وإلى حدّ ما إيطاليا. إضافة إلى ما تقدّم، يخشى مساعدو بايدن من فكرة فوز ماكرون بفارق ضئيل في جولة 24 نيسان، الأمر الذي قد يعني أنّه يتّجه إلى فقدان السيطرة على البرلمان، الذي قد تنتقل غالبيته إلى يد اليمين المتطرّف. تبقى بروكسل أكثر قلقاً من هكذا سيناريو، رغم أن لوبان استبعدت مؤقّتاً من برنامجها الانتخابي فكرة التخلّي عن عضوية الاتحاد الأوروبي، لتجنُّب إغضاب قطاعات محدّدة من الناخبين. وتأتي مقاربة لوبان هذه في الوقت الذي يبرز فيه تيّارٌ يمينيٌ قويٌ داخل مؤسّسات الاتحاد تقوده هنغاريا وبولندا، إضافة إلى نواب إيطاليين وفرنسيين ورومانيين وإسبان، يثير متاعب للبيروقراطيّة الأوروبيّة، ويرفض العديد من سياسات المركز الليبراليّة في عدّة مجالات، من بينها حقوق الإنسان.
في هذه الأثناء، سيتركّز الصراع الانتخابي الفرنسي التالي، على كسب ناخبي اليسار من قبل فريقَي ماكرون ولوبان. وبحسب استطلاعات الرأي بعد الجولة الأولى، فقد يمتنع نصف من أدلوا بأصواتهم لمصلحة ميلانشون عن التصويت، فيما سيتّجه آخرون لتأييد ماكرون بوصفه أخفّ الشرَّين، وأقرب إلى الوسط. لكن ذلك غير مضمون، بعدما ازداد الاستياء من ماكرون الذي كان أكثر تركيزاً على الاستعراضات الديبلوماسيّة الدولية، بدلاً من مواجهة المخاوف المحلية والمشاكل اليوميّة للفرنسيين، واصطدم عدّة مرّات بمتظاهري «السترات الصفر»، فضلاً عن فشلٍ دائمٍ في التخلص من وصمة العار المتمثّلة في كونه «زعيماً لباريس»، وليس لكلّ فرنسا. ويأتي ذلك فيما بذلت لوبان كلّ جهدٍ ممكن لتوسيع جاذبيّتها محليّاً، إلى ما وراء قاعدة تأييدها التقليدي في أقصى اليمين، فخفّفت من حدّة طروحاتها التحريضيّة، ووعدت في برنامجها بالعمل على تقديم سنّ التقاعد وخفض ضريبة القيمة المضافة على المواد الغذائية الأساسية، وخفض أسعار الغاز والكهرباء، وفرض ضرائب على توظيف الأجانب لصالح المواطنين. لكنّ برنامجها الدولي يتضمّن الانسحاب من «الناتو»، وخفض المساهمة الفرنسية في الاتحاد الأوروبي، وإعادة التفاوض بشأن اتفاقية «شينغن»، والاحتفاظ بعلاقات غير عدوانيّة مع موسكو.