صراع «السيادة» على سوق الطاقة: أسعار من ثلاثة أرقام صارت ماضياً بعيداً!

صراع «السيادة» على سوق الطاقة: أسعار من ثلاثة أرقام صارت ماضياً بعيداً!

أخبار عربية ودولية

الجمعة، ١٠ يوليو ٢٠٢٠

افتتحت روسيا والسعودية، أخيراً، معركةً لا تزال متواصلة، عنوانها السيادة على أسواق الطاقة العالمية، لتبيّنا أن في مقدورهما، متى أرادتا، التحكُّم بأسعار النفط عالمياً. ما جرى في الأشهر التي مضت، لم يكن مِن قبيل الصدفة، وإنّما لوضع صناعة النفط الصخري الأميركية، في موضع الصراع من أجل البقاء
في الثاني عشر مِن نيسان/ أبريل الماضي، وُضع حدٌّ لحرب أسعار مُدمِّرة بقيادة السعودية وروسيا، لينتج منها اقتطاع غير مسبوق في إنتاج النفط يوازي 10% مِن الإمدادات العالمية. اليوم، وبعد مرور أربعة أشهر على اجتماع «أوبك+» الحاسم في السادس من آذار/ مارس، حين فرطت موسكو عقدها مع الرياض، مطلقةً شرارة حربٍ نفطية ستستمرّ لأكثر مِن شهرٍ، وستجرف معها الأسعار إلى حدود دنيا بعد قرار المملكة تعويم الأسواق بنفطٍ شبه مجانيّ، لم يُفهم من الخطوة «المشتركة» سوى أنها هدفت إلى ضبط هوامش الحركة، ووضع قواعد جديدة للسيادة على سوق الطاقة العالمية. قواعد تؤلم صناعة النفط الصخري الأميركية، وتضعها تحت رحمة «كارتيل» يبدو مصمّماً على تدميرها بأيّ ثمن.
اختارت روسيا توقيت انسحابها بعناية، توازياً مع تفشّي «كورونا» وتهاوي الطلب على الخام نتيجة «الإغلاق العظيم». مع ذلك، لم يتوقّع الروس، كما أقرّوا لاحقاً، نتائج كارثيّة كتلك التي بيّنت، وسط استخفافٍ بتداعيات الوباء على الاقتصاد العالمي، وسوق النفط على وجهٍ خاص. معضلة «الحرب» وتوقيتها، إلى جانب ابتزاز هائل مارسه البيت الأبيض، وصل إلى حدّ تهديد ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، بالتخلّي عن حماية المملكة عسكرياً، سرّعا بتبلور اتفاق نيسان، والذي وضع قيوداً صارمة على الإنتاج لمدّة عامين.
مرحليّاً، بدّدت هدنةُ التقاط الأنفاس القائمة قلق سوقٍ منهارة تلقّت الدعم، أيضاً، من انخفاض الإنتاج الأميركي، فارتفعت الأسعار إلى هامش يُعدُّ مريحاً بالنسبة إلى موسكو (من أقلّ من 20 دولاراً للبرميل إلى أكثر من 40 دولاراً). الآن، باتت دول «أوبك+» أمام تحدٍ جديد، يتمثّل في كبح صناعة النفط الصخري الأميركية. صناعةٌ لن تنجو في ظلّ أسعار تتراوح بين 40 و50 دولاراً للبرميل (يتوقّع «صندوق النقد الدولي» أن لا تتجاوز أسعار العام الجاري هذا المستوى)، نظراً إلى التكلفة العالية لاستخراج النفط الصخري. لذا، تقضي خطة «التحالف»، وفق مصدر روسي تحدّث إلى «رويترز» الشهر الماضي، بالالتزام بهذا الهامش، لأن من شأن ارتفاع الأسعار إلى مستويات ما قبل الأزمة (70 دولاراً)، أن يشجّع منتجي النفط الصخري على زيادة الإنتاج، وتالياً رفع حصّتهم السوقيّة. في ضوء ذلك، توصلت روسيا والسعودية إلى حلّ وسط تُمددان بموجبه إلى شهر تموز/ يوليو الجاري العمل باقتطاعات الإنتاج الحالية، والبالغة 9.7 ملايين برميل يومياً (10% من الإنتاج العالمي)، بعدما كان مقرراً سريانها في الشهرين الخامس والسادس، على أن يبدأ تقليصها اعتباراً من الشهر المقبل. القلق من انتعاش الصناعة الأميركية كان مِن ضمن الأسباب التي دفعت موسكو إلى تأييد إطالة أمد التخفيضات شهراً إضافياً. وفي حين أن السعودية وروسيا لا تزالان في مرحلة الحدّ من الأضرار التي سبّبتها حرب أسعار النفط جنباً إلى جنب تداعيات «كورونا»، فهُما فضّلتا رسم سياسة «أوبك+» شهراً بشهر، بهدف متابعة الصناعة الأميركية على هذا الأساس، حتى لا تسمحا لها بالانتعاش مرة أخرى، في حالة تحسُّن الأسعار. وفي ظلّ وفرة المخزونات العالمية، تشير شركة «إنرجي آسبكتس»، إلى أن «السوق في حالة سيولة، وفي ضوء الغموض الذي يكتنف مسار انتعاش الطلب في مواجهة مخاطر ظهور موجة ثانية مِن العدوى، يجب على أوبك أن تظلّ سريعة الحركة». و«باتباع (أوبك+) نهجاً شهرياً، يقف الجميع على أطراف أصابعه، ما يجعل الاستثمار صعباً على الآخرين»، تضيف. جهود «أوبك+» للحدّ من الضرر الذي لحِق بالاقتصاد السعودي بدرجةٍ أكبر من الروسي لكون النفط لا يزال يشكِّل شريان حياةٍ بالنسبة إلى المملكة، بعدما فشلت «رؤية» ابن سلمان، في تجاوز الاعتماد شبه الكلّي على الخام، لا تعني بالضرورة أن جولات الصراع المقبلة ستكون أقلّ ضراوة، ولا سيما أن أسواق الطاقة لا تزال تترقّب حدوث أيّ متغيّر وسط عودة الإصابات عالمياً إلى الارتفاع، والتخوّف من موجة عدوى ثانية تؤدّي، ربّما، إلى إغلاق الاقتصادات مرةً جديدة. كما للحرب، فللهدنة تداعيات أيضاً، إذ أظهرت بيانات مِن «رفينيتيف» أن صادرات روسيا النفطية إلى أوروبا تتّجه إلى تسجيل أدنى مستوياتها خلال 20 عاماً في تموز/ يوليو الجاري، بعدما سمح الاتفاق لمنتجين آخرين بأن يحلّوا محلّها، ومن بين هؤلاء لوبي النفط الصخري. هذا من جهة موسكو، أمّا الرياض المتمسّكة بالاتفاق فهدّدت، أخيراً، بإشعال حرب نفط جديدة وسط خلافات مع أنغولا ونيجيريا في شأن الامتثال للتخفيضات الإنتاجية، وفق ما أوردت «وول ستريت جورنال» قبل أيام.
رغم انتعاش الأسعار مقارنةً بمستوياتها في الشهرين الثالث والرابع، هناك سؤال يدور حول ما إذا كان الطلب تجاوز نقطة اللاعودة في تراجعه. تتوقّع «الوكالة الدولية للطاقة» أن يتراجع المعدّل اليومي للطلب على الخام بحوالى 8 ملايين برميل، على أن ينتعش بـ 5,7 ملايين برميل في 2021، وهو أقلّ من ذاك الذي تم تسجيله العام الماضي، نظراً إلى الضبابية التي تكتنف قطاع الطيران. فهل يعود الطلب إلى مستويات 2019؟ لا يستبعد الرئيس التنفيذي لشركة «بريتيش بتروليوم»، برنارد لوني، وصول العالم إلى ذروة النفط، وهو مبدأ لطالما أثار التكهّنات، وتركَّز، في الغالب، على ذروة الإنتاج وسط توقّع الخبراء بأن تصل الأسعار إلى مستويات قصوى مع نفاد النفط القابل للاستخراج. لكن في الأشهر الأخيرة، راج مبدأ ذروة الطلب بعدما شكّل تفشّي «كورونا» ضربةً للطلب على الوقود في قطاع النقل، وهو قطاع قد لا يتعافى بشكلٍ كامل إطلاقاً، نظراً إلى التغيّرات الطارئة على نمط حياة الأفراد، كالعمل عن بعد وخلافه.
في هذا الوقت، تنتظر الصناعة الأميركية تحدّيات كبرى، رغم إعادة التوازن، نسبياً، إلى السوق المحليّة، بفعل تخفيضات الإنتاج (تُقدر بأكثر من 2.6 مليون برميل يومياً، مقارنة بمستوى الإنتاج المُسجّل في منتصف آذار)، التي عادت لترتفع تدريجياً مع انتهاء موجة الإغلاق الأولى. غير أن تعافي هذا القطاع لا يبدو وشيكاً، وهو ما تتباين في شأنه آراء المؤسسات المختصّة. تقول «مورغان ستانلي» إن الصناعة ستمرّ بثلاث مراحل قبل أن تتعافى: عودة الآبار المغلقة للعمل أولاً، واستقرار مستويات الإنتاج ثانياً (يتطلّب اجتيازها بقاء الأسعار عند مستوى 40 دولاراً للبرميل)، وثالثاً نموّ الإنتاج، مع متوسّط أسعار لا يقل عن 50 دولاراً. لكن «لا توجد فرص حقيقية لنموّ الإنتاج الأميركي هذا العام أو العام الذي يليه»، إذ إن زيادة الإنتاج ستؤدّي بالضرورة إلى عرقلة مسار ارتفاع الأسعار. لذا، فإن هذه الصناعة تحتاج إلى عامين تقريباً حتى يبلغ متوسط الخام الأميركي «غرب تكساس الوسيط» 50 دولاراً، ويعود الإنتاج إلى مستوياته التي سبقت تفشّي الوباء، وفق المؤسّسة. من جهتها، تتوقّع مجموعة «جي بي سي إنرجي» لأبحاث الطاقة، أن يستمر الوضع القائم لغاية تشرين الثاني/ نوفمبر، قبل انتعاش الصناعة الأميركية، وعودة الإنتاج إلى مستويات ما قبل الأزمة.
الأكيد بالنسبة إلى سوق النفط العالمية، أن أسعاراً من ثلاثة أرقام (هي جلّ ما يطمح إليه منتجو النفط الصخري)، أصبحت من الماضي البعيد. راهناً، دخل القطاع مرحلة الصراع من أجل البقاء، بعد خفض النفقات الرأسمالية لعام 2020 بنحو 85 مليار دولار، في مسعى من المنتجين لحماية الموازنات والحفاظ على مدفوعات المساهمين والسيولة. بعد أزمة النفط، منتصف 2014، تمكّن القطاع من تجاوز حرب الأسعار السعودية السابقة، عبر خفض التكاليف بنحو 50% واستقطاب المستثمرين، وهي خطوة أدّت إلى مرحلة نموّ جديدة، وخصوصاً مع بدء تحالف «أوبك+» خفض الإنتاج اعتباراً من عام 2017، ليقفز الإنتاج الأميركي بواقع أربعة ملايين برميل يومياً، في غضون نحو ثلاث سنوات ونصف سنة. إلا أن السيناريو الحالي لا يشبه ما سبق، فبعض شركات القطاع المُثقل بالديون، ورغم خفض نفقاتها ودعمها من قِبَل الإدارة الأميركية، بدأت تشهر إفلاسها، بينما ينتظر آخرون معجزةً قد لا تأتي أبداً.
 
الطلب على المحكّ
تراجع خام «برنت»، أمس، إلى حدود 42 دولاراً، مسجلاً انخفاضاً بنسبة 2%، بينما هوت عقود الخام الأميركي «غرب تكساس الوسيط» 3.4% لتسجِّل 39.53 دولاراً للبرميل، بعدما أوقد ارتفاع حالات الإصابة بـ«كورونا»، ولا سيما في الولايات المتحدة التي سجّلت، أوّل من أمس، 61 ألف إصابة، شرارة مخاوف من احتمال العودة إلى الإغلاق، وتالياً تعثّر تعافي الطلب على النفط. لكن الخام لا يزال يتّجه لتحقيق مكاسب بدعمٍ من انخفاض المعروض، وزيادة المؤشرات على التعافي الاقتصادي، وطلب إفلاس من شركة النفط الصخري الأميركية الرائدة «تشيزابيك إنرجي». وبحسب محلّلة أسواق النفط في «ريستاد إنرجي»، لويز ديكسون، فإن «حالات كوفيد-19 تواصل الارتفاع في الولايات المتحدة، والمتعاملون يتساءلون متى سينتهي هذا الوضع؟ متى سيتغيّر المنحنى... في ظلّ استمرار عاصفة الوباء في الولايات المتحدة والبرازيل ودول أخرى، فإن الطلب على المحكّ».