مقاتلون احتياطيون واستغلال للتاريخ والجغرافيا.. كيف أجبرت طالبان أكبر قوة في العالم على الانسحاب؟

مقاتلون احتياطيون واستغلال للتاريخ والجغرافيا.. كيف أجبرت طالبان أكبر قوة في العالم على الانسحاب؟

أخبار عربية ودولية

الثلاثاء، ٢ يونيو ٢٠٢٠

تحت ظل شجرة التوت وبالقرب من مواقع القبور التي تحمل أعلام حركة طالبان، أقرّ أحد كبار القادة العسكريين للحركة بأنهم تكبدوا خسائر فادحة نتيجة القصف الأمريكي وعمليات الحكومة طوال العقد الماضي، مثيراً مزيداً من علامات الاستفهام حول سر نجاح طالبان في إجبار أمريكا على الانسحاب من أفغانستان رغم هذه الخسائر. 
 
لكنّ تلك الخسائر لم تُغيّر الكثير على أرض الواقع؛ إذ تُواصل طالبان استبدال القتلى والجرحى وشن الهجمات التي أفضت في النهاية لتحقيق هدف الحركة بالتوصل إلى اتفاق يقضي بانسحاب القوات الأمريكية، حسبما ورد في تقرير لصحيفة New York Times الأمريكية.
 
القتال عبادة.. سر نجاح طالبان في إجبار أمريكا على الانسحاب من أفغانستان
“يُمثّل هذا القتال عبادةً بالنسبة لنا”، بهذه الكلمات عبر مولوي محمد قيس، رئيس اللجنة العسكرية لطالبان في ولاية لغمان، عن عقيدة الحركة.
 
وقال قيس أثناء انتظار العشرات من مقاتليه في الجوار: “لذا في حال مقتل أحد إخوتنا؛ لن يتأخّر البقية عن تلبية مشيئة الله، إذ سيتقدّمون لحمل سلاحه وسدّ الثغرة”.
 
يقول كاتب التقرير: “كُنا في مارس/آذار، وكانت طالبان قد وقّعت للتوّ اتفاق سلام مع الولايات المتحدة يضع الحركة على حافة تحقيق أكثر رغباتها اتّقاداً، وهو الخروج الكامل للجنود الأمريكيين من أفغانستان”.
 
ويضيف: “لا شك أن طالبان تفوّقت على واحدةٍ من القوى العظمى في الحرب الطاحنة التي استمرت نحو 19 عاماً”.
 
إذ اعتنقت حركة التمرّد نظام تخطيط وهجمات فرضت ضغطاً كبيراً على الحكومة الأفغانية، ناهيك عن توسيع آلة التمويل غير المشروع التي يقول الغرب إنها مبنية على الجريمة والمخدرات، رغم الجذور الأيديولوجية الإسلامية المُتشدّدة للحركة.
 
وفي الوقت ذاته، لم تُغيّر طالبان رسمياً الكثير في أيديولوجيتها التأسيسية المُتشدّدة أثناء استعدادها لبدء المحادثات المباشرة حول تقاسم السلطة مع الحكومة الأفغانية.
 
الآن الأفغان يخشون أن تنال الحركة الحصة الكبرى من الحكومة
والآن، رغم توقّف القوات الأمريكية وطالبان عن مهاجمة بعضهم بعضاً؛ لكن الحركة كثّفت هجماتها ضد القوات الأفغانية قبل عقد هدنة نادرة لمدة ثلاثة أيام الأسبوع الجاري بمناسبة عيد الفطر. ويبدو أن تكتيكاتهم تستهدف إثارة الخوف.
 
ويخشى الأفغان أن تضغط الحركة على المفاوضين ليمنحوها حصةً مُهيمنة في الحكومة، التي قوّضت مؤسّساتها وتُواصل قتل مسؤوليها بالسيارات المُفخّخة والكمائن.
 
في حين قال أحد قادة طالبان الميدانيين: “سيستمر جهادنا حتى يوم الدين، إلى أن تتم إقامة النظام الإسلامي”.
 
أساليب طالبان للتجنيد والسيطرة
تتراوح أعداد مقاتلي طالبان النشطين حالياً بين 50 ألفاً و60 ألفاً، إلى جانب عشرات الآلاف من المُسلّحين والوسطاء بدوامٍ جزئي وفقاً للتقديرات الأفغانية والأمريكية.
 
لكن طالبان ليست مُنظّمةً مُتراصّة. إذ صمّمت قيادة التمرُّد آلة حرب تتألّف من أجزاء متفاوتة ومُتباعدة، مع الضغط على كل خلية لتحاول تحقيق الاكتفاء الذاتي محلياً. وفي المناطق التي تُسيطر عليها أو تحظى بنفوذٍ داخلها، تُحاول طالبان إدارة بعض الخدمات وحلّ النزاعات لتفرض نفسها بوصفها حكومة ظل.
 
وفي بعض الأحيان كانت أعداد ضحايا طالبان مرتفعةً للغاية، حيث كانت تفقد مئات المقاتلين كل أسبوع بالتزامن مع تنفيذ الأمريكيين لحملة قصف أسقطوا خلالها نحو 27 ألف قنبلة منذ عام 2013، لدرجة أن طالبان طوّرت منظومة قوات احتياط لمواصلة فرض الضغط حيث مُنِيَت بالخسائر وفقاً للقادة الإقليميين في الحركة. 
 
وكان العام الماضي مُدمِّراً على نحوٍ خاص، في ظل مزاعم المسؤولين الأفغان بأنهم يقتلون أعضاء طالبان بمعدلات غير مسبوقة وصلت إلى 1000 قتيل في الشهر، لتفقد الحركة نحو ربع قواتها بحلول نهاية العام. وإلى جانب عمليات قصف القوات الأفغانية، أسقطت الولايات المتحدة نحو 7400 قنبلة، وهو الرقم الأعلى منذ عقدٍ كامل.
 
ورغم ذلك يُواصل المقاتلون التسجيل، بحسب مولوي قيس، ويرجع ذلك جزئياً إلى الكراهية العميقة للمؤسسات الغربية والقيم التي استقتها الحكومة الأفغانية من حلفائها.
 
وقال مسؤولو التجنيد والقادة في طالبان إنهم لا يدفعون رواتب منتظمة. بل يُغطّون بدلاً من ذلك نفقات المقاتلين. واستفادوا خلال السنوات الأخيرة من منح القادة حريةً أكبر في كيفية استخدام الموارد المحلية وغنائم الحرب.
 
ويحتفظ الكثير من مقاتلي طالبان -وبعض القادة- بوظائف أخرى داخل المناطق التي تُسيطر عليها الحركة بأريحية.
 
خطاب إعلامي مؤثر
ولضمان عدم جفاف ينابيع التجنيد، منحت الحركة الأولوية لعمليةٍ معلوماتية متزايدة التعقيد تهدف إلى صياغة خطاب طالبان من خلال إنتاج مقاطع فيديو مؤثرة وتشكيل جهاز إعلامي عدواني على الشبكات الاجتماعية.
 
وبعد اتفاقها مع الأمريكيين، كثّفت طالبان دعايتها واتّخذت لهجةً انتصارية تُنذر بالشُؤم. وفي بيانه السنوي الصادر الأربعاء الماضي بمناسبة عيد الفطر، أصدر القائد الأعلى وعداً بالعفو عن كافة الأعداء الذين سيتخلّون عن ولائهم للحكومة الأفغانية.
 
السر في أنها وُلدت من رحم الفوضى، ولقد حاولت التخلص من بن لادن دون إحراج 
بعد أن استولت طالبان على السلطة باكتساح في التسعينيات وهزمت الفصائل الأخرى في خِضَم الفراغ الذي خلّفه الانسحاب السوفييتي، بدت الولايات المتحدة وكأنها لا تكترث لنظام الحُكم القمعي الذي فرضته الحركة. 
 
لكنّ ذلك تغيّر في عام 2001 حين نفّذ زعماء القاعدة -المُتحصّنين في أفغانستان- هجمات 11 من سبتمبر/أيلول على الأراضي الأمريكية.
 
وفي ظل مشاعر الجرح والسعي إلى الانتقام السريع، لم تستطع إدارة بوش الصبر على مقترحات طالبان للعثور على وسيلة للتخلّص من أسامة بن لادن دون إحراج الحركة بتسليمه مباشرةً إلى الأمريكيين. لذا شنّت الولايات المتحدة غزوها العسكري.
 
هزائم الروس والبريطانيين ألهمتهم
قال العديد من قادة طالبان الذين التقاهم مُعدّ هذا التقرير إنهم لم يحلموا بأنهم سيستطيعون قتال الجيش الأمريكي من جديد طيلة الأشهر الأولى في أعقاب الغزو. 
 
لكنّ ذلك تغيّر بمجرد أن أعادت القيادة التجمّع داخل الملاذات الآمنة التي وفّرها الجيش الباكستاني، رغم حصول الباكستانيين على مئات الملايين من دولارات المعونة الأمريكية، حسب كاتب التقرير.
 
إذ قال أمير خان متقي، رئيس أركان طالبان: “شارك غالبية قادتنا في الحرب ضد السوفييت. هذه أرضنا وبلادنا، ورفاقنا يعرفونها جيداً. كان كتاب تاريخ أفغانستان مفتوحاً أمامنا وأدركنا أن قوات العدو كانت دائماً أكثر عدداً، إذ كانت القوات البريطانية أكثر عدداً من الأفغان، وكانت أعداد القوات السوفييتية أكبر من ذلك بكثير، كما كان الحال مع الأمريكيين. لذا منحنا ذلك بعض الأمل في أن الأمريكيين سيرحلون بنهاية المطاف”.
 
وفساد الحكومة ساعدهم على التصدي لـ300 ألف جندي
منذ البداية، استغلت الحركة فساد وانتهاكات الحكومة الأفغانية التي نصّبتها الولايات المتحدة، وقدّمت نفسها بوصفها الحكم الفصل في مسائل العدالة والتقاليد الأفغانية، ما يضمن استمرار جاذبية الحركة وسط الكثير من المناطق الريفية الأفغانية تحديداً. وفي ظل تركيز الولايات المتحدة أكثر على الحرب في العراق، اتّسع نطاق التمرّد مع اتساع طموحاته وأراضيه.
 
وحين وصل الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى السلطة عام 2009، كانت حركة طالبان قد انتشرت على نطاقٍ واسع مقابل زيادة أيضاً لتعداد القوات الأمريكية على الأرض إلى نحو 100 ألف جندي. 
 
وعلاوةً على وصول تعداد جيش وشرطة أفغانستان إلى نحو 300 ألف جندي بنهاية المطاف، دعّم الجيش الأمريكي عدداً من الميليشيات الأفغانية المحلية في جزءٍ من تدابيره الفورية لاحتواء الأزمات العاجلة. ودخلت الحرب في دائرةٍ مُفرغة من القتل.
 
وأعادت بناء شبكة التبرعات وخبرات حرب العصابات القديمة.. حقاني نموذجاً
في العقد الثاني من التمرّد، تميّزت طالبان بقسوة عنفها، وقدرتها على توجيه الضربات وفقاً لرغباتها، حتى داخل أكثر أجزاء العاصمة كابول تحصيناً.
 
وأعادت طالبان إحياء شبكات جمع التبرعات القديمة داخل الدول العربية، وهي نفس الشبكات التي موّلت حركة المجاهدين المدعومة من الولايات المتحدة ضد السوفييت.
 
وخير مثال على استغلال طالبان خبرات حرب العصابات القديمة، بغرض بلوغ آفاق جديدة من الوحشية، هو تطوير شبكة حقّاني وإدماجها مع قيادة الحركة.
 
إذ كان يُنظر إلى جلال الدين حقاني، مُؤسّس الشبكة، على أنه حليفٌ أمريكي فعّال ومُتعاون في الحرب ضد السوفييت. ولكن خلال الحرب ضد الأمريكيين، انتهى المطاف بالشبكة لتصير ذراع طالبان الوحيدة التي تُصنّفها الولايات المتحدة على أنّها جماعة إرهابية أجنبية.
وحوّلت الشبكة طرق وشبكات تهريبها القديمة إلى ممرات لعبور الانتحاريين والمقاتلين المُدرّبين جيداً، ممن ضربوا الأهداف الأمريكية وهاجموا وكالات حيوية تابعة للحكومة الأفغانية.
 
وحين بدأت الولايات المتحدة التفاوض مع وفد طالبان في الدوحة عام 2018، كان مُهندسو التمرّد -ومن نجوا منه- يجلسون على الجانب المُقابل من الطاولة. وقضى نحو نصف أفراد وفد طالبان المُشارك في مفاوضات 10 سنوات على الأقل داخل مُعتقل غوانتانامو.
 
وإبان مُحادثات الجانبين، اصطدمت السيارات المُفخّخة بالقواعد العسكرية في أفغانستان، وواصلت فرق طالبان الانتحارية هجماتها على مكاتب الحكومة، لتتسبّب في خسائر مدنية فادحةً عادة. وأسفر العُنف في كثيرٍ من الأحيان عن تعقيد أو عرقلة المحادثات الحسّاسة.
 
والتزمت بتعهداتها
قال المسؤولون الأمريكيون إن نظرة ترامب السلبية إلى المحادثات تحسّنت بشكلٍ كبير حين بدأت الحركة في تنفيذ وعودها على الجبهة. إذ كثّف المتمرّدون ضغطهم على معقل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في الشرق، بالتزامن مع قصف الولايات المتحدة لهم من السماء وضغط القوات الخاصة الأفغانية عليهم من الغرب.
 
ورغم ذلك، كانت الحركة تُحاول موازنة اتفاقها مع الولايات المتحدة في ما يتعلّق بتنظيم القاعدة، إذ رفضت توصيف التنظيم بـ”الإرهابي”، وهي الكلمة التي عطّلت المفاوضات لمدة أيام. ولم تُظهِر الحركة أي بادرة ندم على تعاونها مع القاعدة في الماضي، ووعدت فقط بعدم السماح باستخدام أراضيها لشنّ الهجمات مستقبلاً.
 
وبعد نحو أسبوعين من توقيع طالبان الاتفاق مع الولايات المتحدة، أصدر تنظيم القاعدة بياناً أشاد فيه بالاتفاق ووصفه بأنه “نصرٌ كبير” على أمريكا.
 
ونجحت في ترتيب صفوفها الدُّنيا وإقناع جناحها العسكري الأكثر تشدداً
أثبتت حركة طالبان قدرتها على السيطرة على صفوفها عبر اختبارٍ إضافي. إذ قال مسؤولون أمريكيون وأفغان إن معدلات العنف انخفضت بنحو 80% حين اشترط الجانبان إقامة هدنة جزئية لمدة أسبوعٍ واحد من أجل توقيع الاتفاق.
 
وكانت هناك إشارات أخرى إلى أن الملا عبدالغني بارادار اضطر للعب بالبيضة والحجر وراء الكواليس. إذ قال بعض المسؤولين الأفغان إنهم حصلوا على معلومات تُفيد بأن الملا بارادار أصدر إنذاراً نهائياً للجناح العسكري في طالبان، وحذّر خلاله من أن إصرار الجناح على مُحاولة الانتصار بالقوة ستعني أنه لن يعود بحاجةٍ إلى قضاء أيامه في الجدال مع الأمريكيين حول كل كلمة وتفصيلة.
 
ومن الأشياء التي أبطأت سير المفاوضات مع الولايات المتحدة أنّ القيادة السياسية لطالبان كانت ترغب في نقاش كل صغيرة وكبيرة مع القادة العسكريين، لإطلاعهم على كافة التفاصيل تجنّباً لاندلاع التمرد أو الانشقاق.
 
وقال مسؤولو طالبان إنّ ما يُميّزهم عن الفصائل الأخرى التي حاربت الاتحاد السوفييتي، ثم دخلت حالةً من الفوضى بغرض الاستحواذ على السلطة، هو وحدة الحركة وأنّ ولاء أفرادها كان مُقسّماً بين أكثر من 10 قادة. 
 
إذ بدأت طالبان تمرّدها تحت قيادة أميرٍ واحد هو الملا عمر. لكن التمرّد بلغ ذروته مؤخراً، مع هيكل قيادة يعتمد على الإجماع قبل أن يضرب بيدٍ من حديد ضد من يعصون أوامره من الداخل.
 
بينما قال المُحلّل تيمور شاران إنّ الحفاظ على الوحدة بات أسهل في ظل وجود عدوٍ مُشترك يجب قتاله: وهو جيش الولايات المتحدة. لكنه أوضح أنه في حال تحقيق طالبان لحلمها بأفغانستان خالية من الأمريكيين؛ فسوف يُواجهون العديد من التحدّيات التي دفعت بالبلاد إلى مستنقع الفوضى في الماضي.
 
وأردف: “ستتعرّض العلاقة بين القادة السياسيين والعسكريين، الذين يحتكرون الموارد والعُنف، لاختبارٍ قوي. لقد اندلعت الحرب الأهلية داخل كابول في التسعينيات لأنّ القادة العسكريين الذين احتكروا العُنف في الصفوف الدُّنيا أرادوا توسيع مواردهم، وليس لأنّ القادة السياسيين عجزوا عن التوصّل إلى توافق في ما بينهم. لذا يئس القادة السياسيين من محاولة السيطرة عليهم”.