هل يضمن توقيع اتفاق جديد مع إيران أمن الشرق الأوسط؟ غالباً «لا»، فما البديل إذن؟

هل يضمن توقيع اتفاق جديد مع إيران أمن الشرق الأوسط؟ غالباً «لا»، فما البديل إذن؟

أخبار عربية ودولية

الاثنين، ١٠ فبراير ٢٠٢٠

استراتيجية الضغط الأقصى التي قرر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اتباعها؛ لإجبار النظام الإيراني على توقيع اتفاق نووي جديد، أثبتت فشلها حتى الآن في تحقيق الأمن بالمنطقة، لأسباب كثيرة ومتنوعة، فهل هناك بديل يضمن تحقيق الهدف؟
مجلة فورين بوليسي الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: «توقيع اتفاقية نووية جديدة لن يكفُل أمن الشرق الأوسط»، تناولت فيه أسباب فشل الاستراتيجية الترامبية، وكيف أن حتى نجاحها في توقيع اتفاق جديد، على الأرجح لن يحقق الهدف.
 
ما طبيعة وأسباب المأزق الأمريكي في المنطقة؟
دفع الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بسياسة بلاده تجاه الشرق الأوسط إلى مأزق. إذ أوضح منذ توليه الرئاسة أنَّ هدفه هو خفض الوجود الأمريكي في المنطقة، لكن سياساته لم تولّد الاستقرار الذي قد يجعل هذا الانسحاب قابلاً للتطبيق؛ بل العكس، انصبَّ تركيز واشنطن على وضع اتفاقية جديدة بديلة للاتفاق النووي مع إيران لعام 2015، تكبح برنامج طهران الصاروخي وتحدُّ من أنشطتها الإقليمية. لكن لم يُسفِر السعي للوصول إلى مثل هذه الاتفاقية باعتبارها لُب السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، إلا عن زعزعة المنطقة وتهديد المصالح الأمريكية فيها. 
 
واعتمد ترامب على حملة «الضغط الأقصى» التي تخنق الاقتصاد الإيراني؛ من أجل إثناء إرادة قادتها، لكن بدلاً من الاستسلام، خفَّضت إيران من التزامها بالاتفاق النووي لعام 2015، وأسقطت طائرة أمريكية من دون طيار، وشنَّت هجوماً سافراً على ناقلات ومنشآت نفطية بالخليج، واستهدفت المصالح الأمريكية في العراق. وردَّت الولايات المتحدة بضربة جوية أسفرت عن مقتل اللواء قاسم سليماني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإسلامي الإيراني، في 3 يناير/كانون الثاني. وتلا ذلك اندلاع أزمة بين البلدين؛ وهو ما أوضح أنَّ ترامب قد أخطأ في تقديره حين تخيل أنَّ فرض أقصى قدر من الضغط سيكون سهلاً ومن دون تكلفة. فإيران، بدورها، تمتلك القدرة على ردع الهجمات التي تستهدف مصالحها؛ ومن ثم تخاطر سياسة ترامب بإشعال حرب لا تحتاجها الولايات المتحدة ولا تريدها.
وكان احتواء إيران يمثل فيما مضى، أحد الأركان المحورية في نهج واشنطن للأمن بالشرق الأوسط. لكن اليوم، لم يعد هذا الهدف يتسم بالحكمة ولا بالاستدامة، إذ يتعارض مع أولويات الولايات المتحدة الأخرى؛ مثل التنافس مع الصين وروسيا، إلى جانب أنه فشل في تحقيق الاستقرار الدائم بالمنطقة، ولا يمكن أن تعتمد واشنطن في تحقيق هدف الاحتواء على الدعم المحلي الثابت: إذ سبق أن شجع استياء الرأي العام من الالتزامات غير المجابة في الشرق الأوسط الرئيس ترامب على التعهد بإنهائها. لذا، يجب على الولايات المتحدة إعادة التفكير في منهجها في التعامل مع الشرق الأوسط. وبدلاً من محاولة احتواء إيران، ينبغي لواشنطن الاستثمار في صياغة نظام إقليمي، من شأنه تقليل التوترات وتشجيع الاستقرار.
 
الجوار المشترك  
حتى وإن نجحت إدارة ترامب في الوصول لاتفاق نووي جديد مع إيران، فمن غير المحتمل أن تشهد المنطقة استقراراً كبيراً؛ بل العكس، سيتبين لترامب أنَّ الاتفاقية النووية ما هي إلا اتفاق للحد من التسلح. بمعنى آخر، ستتعامل الاتفاقية مع مصدر قلق دولي كبير، لكنها ستعجز عن وضع حلول نهائية لمشكلات الأمن الحدودي في الشرق الأوسط أو تغيير حسابات إيران الاستراتيجية.        
 
ففي الشرق الأوسط الحالي، تتشابك إيران وإسرائيل والمملكة العربية السعودية وتركيا وحلفاء كل من هذه الدول في منافساتٍ محصلتها صفر، وتزداد حدة التهافت على السيادة؛ وهو ما يؤجج سباق تسلح خطير واسع النطاق، بدايةً من الأسلحة التقليدية والصواريخ والميليشيات إلى الجيوش الإلكترونية والأسلحة التكنولوجية المتقدمة. ولن تنجح الصفقة النووية الجديدة وحدها في إنهاء هذه المنافسة، أو وضع المنطقة على مسار مختلف، أو حتى تغيير مفهوم إيران عن أمنها. لكن من خلال إزالة تهديد واحد عاجل من المشهد وفتح باب للدبلوماسية مع إيران، يمكن أن يسمح الاتفاق للولايات المتحدة بخفض وجودها في المنطقة. وهذا الاحتمال يزيد من ضرورة وضع نظام إقليمي قابل للتطبيق.
 
وقد استندت السياسة الأمريكية فترة طويلة إلى افتراض أنَّ التصدي لتعثر المنطقة في دوامة خطيرة من انعدام الأمن يستلزم أن تتصدى الولايات المتحدة لسلوك إيران المُزَعزِع للاستقرار. بمعنى أدق، اعتبار إيران قوة تحريفية. إذ ترى طهران أنَّ النظام الإقليمي الحالي يقصيها؛ ومن ثم تُوجِّه طاقاتها لمحاربة هذا النظام الإقصائي. ولن يتغير سلوكها إلا إذا وجدت مكاناً لها في هذا النظام، وهو ما سيبدأ باعتراف الجهات الخارجية بأنَّ إيران لديها مصالح مشروعة في التطورات بالعالم العربي، مثلها مثل إسرائيل والمملكة العربية السعودية وتركيا. وكان الرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، قد أخبر العرب المعارضين للصفقة النووية لعام 2015 ذات مرة، بأنه يتعين على إيران والسعودية «إيجاد طريقة فعالة لمشاركة الجوار وإقامة نوع من السلام البارد». ووقتها رفض الزعماء العرب نصيحة أوباما، لكنها تبدو الآن كأنها كانت نبوءة.
 
إعلام عبري: «اتصالات مكوكية» لترتيب لقاء قريب بين نتنياهو ومحمد بن سلمان في مصر
وسيكون من الصعب بناء نظام إقليمي جديد. إذ هناك فجوة كبيرة بين إيران وجيرانها العرب أحدثَها شعور عميق بعدم الثقة. لكن الشرق الأوسط يواجه الآن ضغوطاً ينبغي أن تدفع فاعليه للنظر بجدية إلى هذه الفرصة: إذ لم يعد التزام واشنطن نحو المنطقة على المدى الطويل موثوقاً به، بعد وصول التوترات بين الولايات المتحدة وإيران إلى مرحلة المواجهة، وما يفرضه ذلك من تهديدات.       
 
لكن السعودية، المنافس الرئيسي لإيران، تعارض إدراج طهران في أي نظام إقليمي. ولطالما أصرت الرياض على أنَّ إيران ليست لها أية مصالح مشروعة في المنطقة؛ ومن ثم ليس لها أي شأن في الشرق الأوسط العربي. وهذه هي وجهة النظر نفسها التي تتبناها عن تركيا. لكن طهران ترفض هذا الإقصاء. وخلال الوقت الحالي، تسري عبر الكتلة العربية حالة من الشقاق تجعل من نظرة السعودية إلى العالم متعارضة مع افتراضاتها.
 
إذ يعاني مجلس التعاون الخليجي، الذي تقوده السعودية بوصفها الحصن الإقليمي ضد إيران، من انقسامات عميقة بسبب اختلاف وجهات نظر الدول الأعضاء حول أمن المنطقة. فتحتَ وصاية سعودية، فرضت عديد من دول الشرق الأوسط حصاراً على قطر منذ عام 2017، ويرجع ذلك جزئياً إلى العلاقة الوثيقة بين الدوحة وطهران. ونتيجة لذلك، تعتبر قطر إيران قوة ضرورية لموازنة النفوذ السعودي، وكذلك تركيا قوة موازية لكليهما معاً. إلى جانب أنَّ الكويت وعُمان تشاركان قطر مخاوفها من دور السعودية الجائر في المنطقة، وتناديان الآن بالتعامل مع إيران للتحوط من الهيمنة السعودية. ومن ثم، ستواجه الولايات المتحدة مشكلة في توحيد مجلس التعاون الخليجي ضد إيران، فضلاً عن محاولات توسيعه ليصبح «الناتو العربي» بإضافة مصر والأردن، مثلما أعلنت واشنطن أنها ستفعل. لكن بدلاً من تعزيز كتلة عربية، يجب على الولايات المتحدة تبني تعريف جديد للشرق الأوسط لا يستثني إيران وتركيا.
 
وسطاء حاضرون
ترى إيران الشقاق العربي فرصة ينبغي استغلالها. فبعد أن كشفت حدود التزام الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط وأظهرت قدرتها على زعزعة الاستقرار في المنطقة، تقدم طهران الآن مبادرة دبلوماسية للحد من التوترات، من خلال تدابير أمنية جماعية. إذ اقترحت إيران أن تتولى الأمم المتحدة القيادة، من خلال الاستناد إلى قرار مجلس الأمن الذي كتب النهاية للحرب الإيرانية-العراقية باعتباره إطار عمل، والتعاون مع الحكومات الإقليمية للتوصل إلى خطة مقبولة للطرفين.
 
ويعرض الرئيس الإيراني، حسن روحاني، مثل هذه المبادرات منذ عدة أشهر. ففي شهر سبتمبر/أيلول، أعلن عن خطةٍ سماها «مبادرة هرمز للسلام»، لتكون الخطوة الأولى نحو تحقيق الأمن الجماعي للخليج، وأرسل خطابات رسمية إلى قادة دول الخليج، داعياً إياهم إلى دعم المبادرة. إلى جانب ذلك، طرح روحاني اتفاقيات عدم اعتداء على ممالك الخليج، وأعطى الحوثيين اليمنيين الضوء الأخضر لإجراء محادثات سلام مع السعودية.
 
بدوره، يرى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فرصة مماثلة سانحة لتشكيل الهيكل الأمني ​​في الشرق الأوسط. وحرصاً على توسيع بصمة روسيا بالشرق الأوسط وملء الفراغ الدبلوماسي الذي خلَّفته الولايات المتحدة، عرض بوتين التوسط في محادثات إقليمية تُتوَّج باتفاق أمني. وتشارك إيران بالفعل في مثل هذه الترتيبات التي تقودها روسيا في منطقتي القوقاز وآسيا الوسطى. وباعتبارها القوة الخارجية الوحيدة التي لها علاقات وثيقة مع جميع دول الخليج، يمكن أن تعمل روسيا وسيطاً دبلوماسياً بين إيران وجيرانها العرب؛ ومن ثم إضفاء الطابع المؤسسي على الدور الروسي في المنطقة، وهو ما أراد بوتين فعله منذ فترة طويلة.
 
وقد اتخذت الجهات الفاعلة الإقليمية بالفعل خطوات مؤقتة من تلقاء نفسها نحو بناء الثقة وحل النزاعات. إذ شَرَعَ مسؤولون أمنيون كبار من الإمارات وإيران في محادثاتٍ، الصيف الماضي، بهدف تخفيف حدة التوتر. وتتوسط الكويت كذلك بين قطر والسعودية، وتعمل عُمان على تيسير المحادثات بين السعودية وميليشيات الحوثي اليمنية. وصحيح أنَّ هذه الخطوات بسيطة، لكنها تمثل تقدماً مقارنةً بالعام الماضي، عندما لم تكن هناك أية جهود دبلوماسية إقليمية لحل هذه النزاعات.
 
ومع ذلك، ما زال الوصول لنظام أمني إقليمي للشرق الأوسط بعيد المنال. لكن على المدى القصير، حتى قبل الشروع في مفاوضات الوصول إلى اتفاق جدي، سيعود على المنطقة كثير من النفع إذا تبنَّت تدابير بناء الثقة وإجراء المحادثات، سواء أكانت رسمية أم غير رسمية، ثنائية أم متعددة الأطراف. ولتشكيل أساس للأمن الجماعي، يُستبعَد أن تتوافق آراء دول الشرق الأوسط حول تهديد مشترك، لكن يمكنها الاتفاق على بعض المبادئ. وينبغي أن يكون أول مبدأ، مثلما اقترح أمير الكويت، عدم الاعتداء والامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية لبعضها البعض. تنظر كل حكومة إقليمية إلى الاعتداء أو التدخل السياسي من جهات أجنبية على أنه مصدر تهديد لأمنها القومي، حتى إيران نفسها التي اتهمت جهات فاعلة أجنبية بإثارة الاحتجاجات التي هزت البلاد مؤخراً.
 
وانطلاقاً من اتفاق على المبادئ المشتركة، بإمكان حكومات المنطقة أن تتجه نحو الاتفاقيات المتعلقة بالمسائل ذات الاهتمام المشترك، مثل إدارة الأزمات البيئية، والتعاون الاقتصادي، والعلاقات بين الشعوب، والأمن البحري والطاقة. ومن خلال إبرام اتفاقيات ثنائية ومتعددة الأطراف، بإمكان أطراف المنطقة تحديد الوسائل المناسبة لحل النزاعات، وإقرار الحدود التي يجب أن تلتزمها جميع الدول باسم الأمن الجماعي، وإنشاء مؤسسات تضع هذه الآليات الجديدة موضع التنفيذ.
 
سابقة أوروبية
قد تكون واشنطن متشككة، لسبب ما، في فرص تحقيق الأمن الجماعي بالشرق الأوسط. ولكن لا ينبغي لها أن تقف في طريق هذا الطموح؛ بل يتعين على واشنطن، في ظل تصاعد التوترات وتراجع التزام الولايات المتحدة، أن تشجع المنطقة على التصرف مثل نظيراتها في أماكن أخرى من العالم، والعمل على تعزيز الأمن الإقليمي بمفردها. وبدلاً من أن تسعى الولايات المتحدة لإقرار نتيجة محددة، يجب عليها أن تدرك فوائد هذه العملية. ومن المؤكد أن الولايات المتحدة سترحب باتفاقيات عدم الاعتداء، والوعود بين إيران وجيرانها بعدم تدخُّل أي منهم في شؤون الأخرى. وإذا واصلت إيران تنفيذ هذه الالتزامات، فلن ينزاح العبء الأمني عن كاهل الولايات المتحدة في المنطقة، لكنه سيقل.
 
غير أن قدرة إيران وجيرانها على الوصول إلى مثل هذه الاتفاقيات واحترامها أمر يصعب استيعابه بالكامل. ففي عام 1995، توصلت إيران والسعودية إلى اتفاق أمني ثنائي بشأن التعاون الاقتصادي والأمن الإقليمي، من بين أمور أخرى. وعززت تلك الاتفاقية أمن الخليج عشر سنوات. وفي عام 2015، وقَّعت إيران على الاتفاق النووي مع ست قوى عالمية. وحذر كثيرون في مؤسسة السياسة الخارجية بواشنطن من أن إيران لن تمتثل لشروطه. لكن إيران التزمت الاتفاقية بالفعل، ولم تبدأ في التراجع عن التزامها الكامل بها إلا عام 2019، أي بعد عامين من انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق.
 
وإذا حققت دول الخليج تقدماً في أمنها الجماعي بالفعل، فلا ينبغي للولايات المتحدة أن ترى ذلك التقدم ذريعة للانسحاب من المنطقة، بل عكس ذلك؛ إذ إن المنطقة الأكثر استقراراً لن تتطلب كثيراً من تدخل الولايات المتحدة، وهو ما يطيل من دوام التزامها. وينبغي للولايات المتحدة أن تواصل دعم أمن حلفائها؛ ومن ثم الحفاظ على توازن القوى بالمنطقة وبناء ثقة أطرافها الفاعلة، في طريق السعي إلى ترتيبات أمنية إقليمية.
 
ولرؤية الأمثلة الناجحة على مثل هذه العملية تماماً، لا يحتاج قادة الولايات المتحدة النظر إلى أبعد من منظمة الأمن والتعاون في أوروبا. بدأت تلك المنظمة باتصالات محدودة المستوى وتدابير لبناء الثقة بين الدول الأوروبية التي امتدت بينها الفجوة الأيديولوجية. وتطورت هذه الجهود المتواضعة بمرور الوقت إلى مفاوضات ثنائية ومتعددة الأطراف، ثم إلى اتفاقات موسعة بشأن قضايا منفصلة، ثم أخيراً، إلى مؤسسة أمنية أوروبية متكاملة. وبإمكان الشرق الأوسط الاستفادة من محاولة إجراء عملية مماثلة تماماً.
 
لقد أدرك أوباما أنه إذا رغبت الولايات المتحدة في الحد من نشاطها بالشرق الأوسط، فعليها تشجيع الجهات الإقليمية الفاعلة على التعاون والاستثمار في الأمن المشترك. ولا يمكن إنكار حكمة تلك الرؤية الآن. ومن الأفضل للساسة إدراك الحاجة إلى مثل هذا المسعى ودعمه. ولن يكون البديل سوى مزيد من الفوضى وحروب لا تنتهي.