إسرائيل والحدود... أوهام خريطة ترامب

إسرائيل والحدود... أوهام خريطة ترامب

أخبار عربية ودولية

الأحد، ٢ فبراير ٢٠٢٠

محمد حجيري
ربّح الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الفلسطينيين، جميلاً، بأن نشر خريطة للحدود المقترحة مستقبلاً للدولتين الإسرائيلية والفلسطينية، في إطار ما سُمي خطة "صفقة القرن" (أو العصر) التي أعلنها ترامب لحل النزاع بين الطرفين. وتظهر الخريطة 15 مستوطنة إسرائيلية في منطقة الضفة الغربية المتصلة بقطاع غزة بواسطة نفق، تماشياً مع وعد أطلقه الرئيس الأميركي بإقامة دولة فلسطينية متصلة الأراضي. وكتب ترامب تغريدة باللغة العربية، مصحوبة بالخريطة، وقال فيها: "هذا ما قد تبدو عليه دولة فلسطين المستقبلية بعاصمة في أجزاء من القدس الشرقية"... 
خريطة سايكس بيكو
مشهدية ترامب مع الخريطة، ترتبط في الواقع، بالأبعاد الانتخابية والسياسية في إسرائيل وأميركا، تذكرنا باتفاقية سايكس - بيكو ولعبة رسم الحدود والدول بجرّة قلم. فقد نقل الكاتب البريطاني جيمس بار في كتابه "خط في الرمال"(*) أن البريطاني مارك سايكس قال إنه يريد أن "يرسم خطاًيبدأ بحرف الألف (يقصد مدينة عكا، التي تسمى بالإنكليزية acre)، وينتهي بالحرف كاف نسبة إلى كركوك" (العراقية)، ووصف بار اتفاقية سايكس بيكو بأنها "خط أسود فوق خريطة صماء، قسم الشرق الأوسط من منتصفه، دون أي اعتبار للتوزيع القبلي والعشائري أو الانتماءات الدينية والعرقية". بجَرَّة قلم خرقاء، رسم مارك سايكس وجورج بيكو خطّاً في الرمال، من البحر المتوسط، إلى الحدود الفارسيّة، وأعادا معاً رسم خريطة الشرق الأوسط بإقرار "انتداب" بريطانيّ على فلسطين وشرق الأردن والعراق، وفرنسيّ على لبنان وسوريا. ولُوِّنت مناطق الوصاية المباشرة بالأزرق في الشمال لفرنسا، لتضم لبنان وكيليكيا، وبالأحمر في الجنوب لبريطانيا، لتضم الكويت وجنوب بلاد الرافدين مع جيب في حيفا من أجل مشروع للسكك الحديدية يبدأ ببغداد. ولُوِّنت بالبنّي منطقة تم تدويلها هي فلسطين. والحال أنه منذ تدويل فلسطين، باتت ساحة في لعبة الأمم. فبعد نشر ترامب خريطته العجائبية، نشر حساب الرئاسة الفلسطينية في "تويتر" خرائط توضح مراحل الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وعمليات القضم للأراضي منذ ما قبل 1948، وتظهر فداحة الواقع على الأرض، فمع كل حرب جديدة هناك نظرية عن حدود جديدة، مع كل مفاوضات هناك مناورة بخريطة جديدة، ودائماً تنتهي الأمور إلى التعثر لأسباب ايديولوجية ودينية وتوراتية... 
تحولات اسرائيل في خريطة فلسطين
بعد إعلان ترامب، نشر تقرير تحليلي في صحيفة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية، قارن بين خريطة ترامب، وأخرى سابقة لم يعلن عنها للعموم، لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، إيهود أولمرت، كان قد كشف عنها خلال مفاوضاته مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، في العام 2008. لكن هذه الخريطة لم يسلمها أولمرت إلى الطرف الفلسطيني، وطلب عدم الكشف عنها، لكن محمود عباس، اضطر إلى رسمها على سبيل التذكر، على ورقة منديل، في ما أصطلح عليه إعلامياً في ما بعد بـ"خريطة المناديل"، وهي توضح كيفية تبادل الأراضي بين الجانبين. ووفقاً لهذه الخريطة، يغادر حوالي 56 ألف مستوطن إسرائيلي، في اتفاق نهائي، منازلهم بالضفة الفلسطينية، بينما يظل 413 ألفاً تحت السيادة الإسرائيلية. وتتضمن الخريطة اقتراحاً بتبادل 6,5% من الأرض بين إسرائيل ودولة فلسطينية مستقبلية. وبحسب "جيروزاليم بوست"، أظهر أولمرت آنذاك، أنه مستعد للانسحاب إلى حدود مشابهة جدًا لخطوط العام 1967، مع تبادل الأراضي داخل إسرائيل مع الفلسطينيين، في مقابل ضم إسرائيل للكتل الاستيطانية الكبيرة. وأحدثت وثائق المفاوضات بين عباس وأولمرت، التي نشرتها قناة "الجزيرة"، ضجة في العام 2011..
 
ومن يتعمق في أفكار الإيديولوجيا الصهيونية، يدرك مغزى أن يربّح ترامب الفلسطينيين جميلاً بإشهار خريطة أو حدود للدولتين الفلسطينية والاسرائيلية. ففي العام 2010، ألقى الكاتب الفرنسي ريجيس دوبريه، محاضرة في البيت الفرنسي- الياباني في طوكيو، بعنوان "في مديح الحدود"(1). ويؤكد المؤلف على "فضيلة" مفهوم "الحد"، وذلك تحديداً في مواجهة "الانفلات من جميع الحدود والمقاييس". وينقل عن الكاتب اليساري الإسرائيلي أوري أفنيري، قوله إن لب السلام هو الحدود وهو "ما لم توضحه أبداً الحركة الصهيونية، فاتحة بذلك المجال لقضم لانهائي للأراضي". ويضيف إن أول رئيس لوزراء إسرائيل دافيد بن غوريون، قام "بمجازفة حين لم يأت في إعلان الاستقلال على ذكر للحدود" في إشارة إلى ما يطلق عليه العرب والفلسطينيون "النكبة" العام 1948. ويقول إن "المجازفة" تتضح في قول رئيسة الوزراء السابقة غولدا مائير "الحدود موجودة حيث يوجد اليهود لا حيثما يوجد خط على الخريطة"...
ويعلق دوبريه على هذا قائلاً "على المستوطنين إذن أن يضعوا معلم (خط) الحدود، للشرعية التي تتقدم مع البندقية وعربات المستوطنين، تلّةً فتلّة. أي هي في المحصلة حرب لمئة عام". ويؤكد الباحث الاسرائيلي أرييه ناؤور، في كتابه "أرض إسرائيل الكاملة: المعتقد والسياسة"، أن "مصطلح ’أرض إسرائيل الكاملة’ يفتقر إلى جذور تاريخية. دائماً كانت لأرض إسرائيل أهمية دينية، تاريخية ورمزية، من دون تعريف واضح لحدودها". 
 
منذ احتلال فلسطين، تحولت خريطتها شكلاً من أشكال المجاز، والقضية لم تتعلق بالخريطة فحسب بل بالنسيج الاجتماعي... في معرض أقيم في دار النمر قبل مدة بعنوان "إرث وطني" للفنان الفلسطيني مروان رشماوي، حول خرائط فلسطين، قدّم قراءة مختلفة للجغرافيا الفلسطينية ما بين تمثيلاتها في الخرائط والواقع والخيال، وما بين النظرة الاستعمارية إليها، والتحوّلات الجذريّة الآنيّة التي ألمّت بها، ليتجول المرء ولو مجازا في فلسطين من خلال النظر الى القرى والمناطق المتوافرة على قطع خشبية داخل الصالة...
 
لكن، وراء المجاز يقع الواقع المرير. استمدّ القيّمون على المعرض عنوان "إرث وطني" من جملة لرئيس لجنة مسح فلسطين خلال ثلاثينيّات القرن الماضي، البريطاني جون فردريك سالمون الذي قال: "يجب التعامل مع المساحة الطوبوغرافية المتقنة كإرث وطني من الطراز الأول". واكتسبت هذه الكلمات تأويلات جديدة وغير مقصودة في ظل التغيرات الدرامية التي شهدتها المنطقة خلال العقود السبعة الماضية. المرارة أن الأرض الفلسطينية الماثلة في اللوحات ثلاثية الأبعاد، وقعت ضحية سياسات كولونيالية بريطانية فرنسية، اشتغلت على جُملة من الخدع التي صبّت في صالح الإسرائيليين، ومهّدت لحدوث الاحتلال وتشريد الفلسطينيين...
 
وأطلقت مبادرة Visualizing Palestine مشروع "خرائط فلسطين المفتوحة"، هو عبارة عن منصّة تسعى إلى الجمع بين تقنيات رسم الخرائط ورواية القصص حول المناطق فيها، وترافق اطلاق المشروع مع محاضرة في مؤسسة "ماغ" في عمّان (الأردن)، تناولت 150 خريطة مفصّلة لفلسطين رسمت في عهد حكومة الانتداب البريطاني بين العامين 1923 و1948، وفيها ما يفوق 500 قرية فلسطينية جرى تهجيرها.
 
في الأفق، ثمة من هو أبعد من الخرائط أيضاً، إنها الديموغرافيا. لنفترض أن "صفقة القرن" طُبّقتْ (وهذا مستبعد)، ستطل في الأفق أزمة أكثر تعقيداً وتتجسد في النسيج الديموغرافي الذي يرسم خرائط اجتماعية جديدة تؤدي الى انفجارات جديدة، هذا عدا عن أن الصراع ميتافيزيقي غيبي في الخريطة الفلسطينية.