خطاب الردع الأميركي: أن تكون «قوياً» وقصير النظر

خطاب الردع الأميركي: أن تكون «قوياً» وقصير النظر

أخبار عربية ودولية

الجمعة، ١٧ يناير ٢٠٢٠

في خطاب طويل تلاه مايك بومبيو قبل أيام، قدّم رواية الإدارة لما بات يُعرف بـ«استراتيجية الردع الحقيقي» ضدّ إيران. جملة مفارقات كانت حاضرة في خطابه، أهمها إصراره على أن أيّ خطوة تخطوها إدارة ترامب، إنما ترتكز إلى استراتيجية واضحة. اغتيال سليماني لا ينفصل عن هذا السياق، كونه أعاد «الهيبة» إلى الردع الأميركي. هيبةٌ ما لبثت أن تلاشت في الثامن مِن الشهر الجاري، بينما كانت الصواريخ تتساقط على قاعدتَي «عين الأسد» وأربيل الأميركيتين في العراق.
 
فجر الثالث من الشهر الجاري، نفّذت أميركا «ضربتها الكبرى»، واغتالت قائد «قوة القدس» في الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني. لا يقتصر الهدف الأميركي على مجرّد ضربة موجّهة ضدّ إيران، بقدر ما كان يصبّ في إطار استراتيجية أوسع لردع التحديات التي يشكّلها «خصوم» الولايات المتحدة. «نحن نعيد الصدقية لقوة الردع»، قال وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، في خطابه مساء الاثنين أمام معهد «هوفر» في جامعة ستانفورد (كاليفورنيا). استراتيجيةٌ لا ينفكّ الخبراء ومراكز الأبحاث، الأميركية منها خصوصاً، يحاولون استنباطها وتفكيك شيفرتها في ظلّ إدارة تعمل بصورة عشوائية وبقصر نظر يمتدّ مِن المنطقة، وصولاً إلى الصين. الأكيد بالنسبة إلى الكثير من هؤلاء أن لا استراتيجية أميركية كبرى، ولا حتى صغرى، ولا أفق لإدارة قرّرت تنفيذ عملية اغتيال موضوفة، حسبتها كخطوة استعراضية، بينما هي «متهوّرة واستفزازية».
بومبيو لم يشر إلى خطر الهجمات الوشيكة التي كان يخطّط لها سليماني، بل ركّز في خطابه الذي حمل عنوان «استعادة الردع: المثال الإيراني»، على ما سمّاه استراتيجية الإدارة لبناء «ردعٍ حقيقي» ضدّ إيران، ولا سيما بعدما تبنّى الجمهوريون والديموقراطيون سياسات سابقة شجّعت طهران على «النشاط الخبيث». لكن هناك «استراتيجية أكبر» تقف خلف اغتيال سليماني: ترامب وفريقه للأمن القومي، ومن ضمنهم وزير الخارجية، «يعيدون بناء الردع الحقيقي ضدّ الجمهورية الإيرانية». وبهدف تبسيط وجهة نظره هذه، شدّد بومبيو، خصوصاً، على «إفهام» الخصم فكرة مفادها بأنك «لا تملك القدرة على فرض التكاليف، ولكنك، في الواقع على استعداد للقيام بذلك»، وإقناعه بأن تكاليف سلوك معين ينتهجه «إنّما تتجاوز فوائده»، لأن الخصم الذي ازداد «جرأةً» منذ قرار إدارة ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي منتصف عام 2018، أعطى حافزاً لأميركا التي باتت تتمتّع بموقع قوّة منقطع النظير إزاء إيران. قوةٌ تستشفّها واشنطن من جرّاء الأضرار التي لحقت بالاقتصاد الإيراني بفعل سياسة «الضغوط القصوى» المتبعة مِن قِبَل هذه الإدارة.
 
«ما الذي فعلناه؟»
خطاب الردع الرنّان، تساوق مع رفض واسع النطاق لحجّة «الدفاع عن النفس» التي ساقتها الإدارة لتبرير ضربتها. تبريرٌ أثقلته واشنطن بحصولها على معلومات استخبارية، لم تكشف عنها حتى الآن، في شأن هجمات إيرانية وشيكة. المفارقة أن ترامب الذي ربّما كان يقدح مِن رأسه حين أشار إلى أن الأهداف المحتملة تشمل أربع سفارات أميركية، باغته وزير الدفاع مارك إسبر لينقض روايته، ويكشف أنه لم يطّلع على أيّ تحذير مسبق من هجمات محتملة ضدّ السفارات.
انطلاقاً من سؤاله أعلاه، قدّم بومبيو إجابة ذات شقّين: الأول، حرمان إيران من الموارد التي تحتاج إليها لممارسة «نشاطها الخبيث» في العالم، والثاني فهو دعوتها إلى التصرّف كـ«دولة طبيعية». الوزير نفسه، في خطابه الشهير أمام الجامعة الأميركية في القاهرة قبل عام، أوجز أن الاتفاق النووي «أثبت أنه رهان استراتيجي فاشل»، وأن «السياسة التي وضعها ترامب تتّفق تماماً مع حقيقة أن جمهورية إيران الإسلامية ليست دولة طبيعية». كيف تكون الدولة طبيعية؟ يسأل بومبيو: لماذا لا تكون إيران كالنروج مثلاً؟ يضحك الجميع. العزلة الدبلوماسية والضغط الاقتصادي والردع العسكري، ثلاثي يميّز سياسة ترامب الإيرانية. مُعدّداً المنجزات «الدبلوماسية»، ذكر الوزير، مثلاً، دوريات الحلفاء في مضيق هرمز، وحظر السفر الذي فرضته كلّ من ألمانيا وفرنسا وإيطاليا على شركة «ماهان إير» الإيرانية لدورها في نقل «العتاد والأسلحة العسكرية الإيرانية إلى مناطق القتال»، وخطوة الأرجنتين والمملكة المتحدة بتصنيف حزب الله «منظمة إرهابية». ولأن الضغوط الدبلوماسية لم تكن لتنفع، أقرّ بومبيو بأنه ورئيس هيئة الأركان المشتركة مارك ميلي هما صاحبا فكرة اغتيال سليماني، بسبب قرار إيران «السيئ». كان يشير، حصراً، إلى مقتل متعاقد أميركي في كركوك نهاية الشهر الماضي، ومحاولة اقتحام السفارة الأميركية في بغداد. تلك هي الرواية التي قدّمها لتبرير اغتيال الجنرال الشهيد. سرد أمام مستمعيه، ومن بينهم كوندوليزا رايس، كيف أن الحكومة الأميركية حَمت أميركا: ملايين النازحين والقتلى في سوريا، والمجاعة ووباء الكوليرا في اليمن، و«الميليشيات الشيعية التي تزعزع استقرار الديموقراطيات» في لبنان والعراق، رعاية كلّ هذا «البؤس» مسؤولية «النظام الإيراني وعملائه تحت الإشراف المباشر لقاسم سليماني». في معرض إشارته إلى الردّ الإيراني، أبدى امتنانه «لعدم وقوع خسائر في الأرواح»، لكنه حذّر: «إذا صعّدت إيران، فإننا سننهي الموضوع وفق شروطنا». لم يذكر تلك الشروط، إلا أنه أكّد «(أننا) لا نعلم كيف سيكون ردّ فعل النظام الإيراني فيما نمضي لإعادة بناء قوة الردع»، متحدثاً عن «الخيار الصائب» الذي يقوم على العودة إلى «موقع نتبادل فيه الاحترام في ما بيننا، سيكون ذلك شيئاً جيداً للعالم كله».
سياسة الردع، في قاموس بومبيو، لا تقتصر على إيران. ردعُ الأعداء يأتي في سياق الدفاع عن «الحرية» و«التحرّر» في جميع أنحاء العالم. النقطة الرئيسية لعمل ترامب يمكن اختصارها بـ«جعل جيشنا أقوى ممّا كان عليه في أيّ وقت مضى». من هنا، كان لا بدّ من التذكير ببعضٍ مِن «إنجازات» الإدارة في مواجهة روسيا: استئناف المساعدات العسكرية لأوكرانيا للتصدّي للانفصاليين في الشرق، انسحاب ترامب من معاهدة الصواريخ النووية المتوسطة المدى مع روسيا، والذي تلاه إجراء الولايات المتحدة اختبارات صواريخ «كروز» جديدة متوسطة المدى. «إنجازٌ» آخر يضاف إلى سجلّ الإدارة، متمثل في زيادة المناورات البحرية الأميركية في بحر الصين الجنوبي، ردّاً على «عسكرة» الصين للجزر المتنازع عليها، ومحاولاتها «الوقحة» الضغط على حلفاء أميركا، الأمر الذي ساهم في تقويض عامل الردع، معطوفاً على الحرب التجارية المقدسة، ومِن سماتها فرض ضرائب جمركية على الواردات الصينية، كجانب رئيسي في «استراتيجية الردع» التي تتبعها الإدارة.