«قيامة» لولا دا سيلفا: كيف نكون أحراراً وبلادُنا في الأسر!

«قيامة» لولا دا سيلفا: كيف نكون أحراراً وبلادُنا في الأسر!

أخبار عربية ودولية

الأربعاء، ١٣ نوفمبر ٢٠١٩

يعود الزعيم البرازيلي إلى المشهد بقوة، على رغم الرعب الذي دبّ في صفوف التيار اليميني المشرذم بفعل الانقسامات، ما دفع الرئيس جايير بولسنارو إلى التهديد بإعلان حالة الطوارئ. لا يكترث لولا دا سيلفا لهذا الضجيج، وهو يتّجه بخطوات غير انتقامية ومحسوبة تحترم الفترة الرئاسية إلى إعادة تنظيم صفوف اليسار. مهمّةٌ لن تكون نتائجها مقتصرة على البرازيل، بل إن المواجهة الكبرى الجارية في أميركا اللاتينية ستعتمد على ما يحققه الزعيم العمّالي «المحرَّر».
لم يكد يمرّ أسبوع على إطلاق سراح الزعيم البرازيلي، لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، حتى جُنّ جنون اليمين الحاكم وأعوانه. فالعجوز الذي أمطرته سهام خصومه بعدد من الملفات الكيدية، وجيّشت مؤسسات الأمن والقضاء للنيل منه، خرج فتيّاً وأكثر حيوية. في تلك اللحظة التاريخية، شقّ دا سيلفا طريقه على أكتاف مناصريه بعد 580 يوماً من البعد القسري، وخاطب الثنائي سيرجيو مورو (وزير العدل الحالي وقاضي التحقيق السابق) وديلتان دالاغنول (المدعي العام)، قائلاً: «لقد رفضت أن أفرّ من بلدي أو التجئ إلى أيّ سفارة، قررت أن أقدّم حريتي ثمناً لكشف أكاذيبكم ولأبرهن لكلّ الناس أنكم جبناء ومزوّرون، وأنكم مع كلّ طاقمكم وشركائكم لا تصلون إلى عشر أمانتي وصدقي».
كان اللقاء أمام مبنى الشرطة الفدرالية مؤثراً جداً. ساعات من الانتظار بعد صدور القرار القضائي الذي ينصّ على تحرير الزعيم العمّالي ظهر السبت الماضي، انهالت خلالها الاتصالات على القضاة لابتداع فتوى تعيق خروج المارد من زنزانته. لكن الشرطة الفدرالية التي أعاقت خروج دا سيلفا العام الماضي لم تستطع الاستجابة للمماطلة المبالغ فيها، وخصوصاً أن الشوارع المحيطة بمقرّها كانت هذه المرة تغصّ بالمنتظرين الذين غنّوا بصوت واحد: «أعترف أني متعب، من كثرة ما خدعت». تحمل الأغنية الشهيرة للثنائي دودوكا ودالفان دلالات واسعة، ما جعل دا سيلفا يذكرها في خطابه الأول، إلا أن مضامين القصيدة التي شاعت في أوائل الثمانينيات وتحدّت الحكم العسكري حينها أخذت أصداء أكبر في سان برناندو، حيث شكّل الناس أمواجاً بشرية تقاذفت قائدها بأكتافها وصدورها. مشهدية كانت أقرب إلى طلب المسامحة من أبٍ تُرك يوماً لمصيره، وسط انقضاض الداخل والخارج على رمز السيادة والتحرّر والاستقلال.
لم يتأثّر دا سيلفا بعداء خصومه الشرس، فبرز في اليوم التالي لإطلاق سراحه كي يرسم خريطة الطريق التي لا تضمّ نشاطاً انتقامياً أو انقلابياً. وعلى الرغم من الشوائب التي سادت الانتخابات الرئاسية التي أنتجت نصراً لليمين المتطرف، فإن القائد الذي يمتلك قوة العشرين عاماً وروح الثلاثين (حسب وصفه) أعلن صراحة أنه يحترم قرار البرازيليين ومدة الفترة الرئاسية الحالية. لكنه توجّه إلى الرئيس الحالي جايير بولسنارو قائلاً: «لقد انتخبك البرازيليون لترعى مصالحهم وليس لرعاية الميليشيات الإجرامية في ريو دي جانيرو». وحول ما اعتبره بولسنارو إنجازاً بعد أخذِه وعداً من ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، باستثمارات تصل إلى 10 مليارات دولار، قال دا سيلفا: «حين كنا نجول العالم، كانت البرازيل تزداد احتراماً وصدقية، والآن يقوم بولسنارو بإنشاء شراكة مع شخص متهم بقتل صحافي وتقطيعه داخل سفارة بلاده في إسطنبول، إن مصالحنا يجب أن تُبنى على القيم ومبادئ حقوق الإنسان وليس على تغطية القَتَلة».
يعتمد مشروع دا سيلفا الحالي على تنظيم اليسار، وربطه بالشارع التوّاق إلى إعادة البرازيل إلى وجهتها الأصلية. فهو يدرك أن اليسار يحتاج في هذا الوقت الاستثنائي إلى قيادة حقيقية يلتفّ حولها شتات حزبه والحلفاء، وتؤسّس لمواجهة مقبلة تستفيد من الوقت المتبقي لولاية بولسنارو (ثلاث سنوات). وينظر الخبراء إلى هذه الخطة كـ«تكتيك استراتيجي» لرجل دولة نموذجي، فهو يعرف أن الحالة «البولسنارية» هي واقع طارئ على المجتمع البرازيلي، وأن ثمة من يختبئ خلفها للانقضاض على الحكم بعناوين مشابهة للنموذج البوليفي، وأن عدم فتح معركة إقالة بولسنارو سيصعّب ارتقاء العسكر إلى سدة السلطة. وعليه، فإن المعركة اليسارية ستكون واجهتها الحكومة اليمينية، لكن عمقها سيتحول إلى منع تشكيل أيّ سلطة عسكرية مبطنة.
إنجازات الرئيس البرازيلي الأسبق في أيام قليلة أثارت الرعب داخل التيار اليميني الحاكم، فانبرى بولسنارو إلى التهديد بفرض قانون الطوارئ في البلاد لإعادة دا سيلفا إلى السجن، متذرّعاً بحالة الفوضى التي تسود الدول المجاورة. نداء بولسنارو لاقى صداه داخل تياره السياسي الذي أخذ يطالب بسجن دا سيلفا خوفاً من انتشار ما سمّاها «حالة التحريض» داخل المجتمع البرازيلي. أما الأخطر في النشاطات المناهضة لحرية دا سيلفا فقد تَمثّل في دعوة المحامية المتطرفة، كلاوديا غوميس، إلى اغتصاب كريمات قضاة المحكمة العليا انتقاماً لقرارهم «السيئ» بحسب وصفها! وقد جاء أول الردود على هذا التصريح من نقيب المحامين في ريو غراندي دي سول، فرناندو بريير، الذي حوّل المحامية المذكورة إلى المجلس التأديبي.
لا يبدو الزعيم البرازيلي مكترثاً لكثرة الجعجعة من حوله، وهو الذي يدرك أنه بات أقوى من خصومه، وخصوصاً بعد الفضائح المتتالية التي تورّط فيها اليمين المتطرّف وأدواته القضائية والأمنية، عدا عن الخلافات المستشرية داخل هذا التيار، وكان آخرها خروج بولسنارو من «الحزب الاجتماعي الليبرالي» وتأسيسه حزباً جديداً يضمّه مع بقايا أتباعه وأبنائه الذين باتوا منبوذين داخل تيارهم. هذا فضلاً عن فضائح الفساد التي ظهرت في ملف سدّ إيتايبو بيناسيونال مع البارغواي، والذي كشفت صحيفة «abc color» في شأنه عن صفقة مشبوهة تَورّط فيها كلا الطرفين، ما أدى إلى إلغاء العقد الموقّع بين البلدين بعد احتجاجات واسعة في أسونسيون. على الصعيد نفسه، أثار الإعلام البرازيلي أخيراً تساؤلات عن صفقة تسليم شركة «إمبرإير» الوطنية لصناعة الطائرات المدنية والعسكرية إلى شركة «بوينغ» الأميركية بقيمة 4.2 مليارات دولار، فيما كانت المؤسسة الوطنية واحدة من أنجح المؤسسات الإنتاجية في البرازيل.
بات واضحاً أن المواجهة في أميركا اللاتينية قد احتدمت مع عودة اليسار إلى سدّة السلطة في الأرجنتين، واشتعال الثورة في تشيلي ضد الرئيس اليميني سباستيان بينييرا، وما تبعه من انقلاب العسكري ضد الرئيس اليساري إيفو موراليس، ومحاولة تحريك الملف الفنزويلي من جديد. لكن الخبراء يؤكدون أن حجر الرحى في هذه المواجهة سيعتمد على نجاح دا سيلفا في استرجاع البرازيل إلى الحضن اللاتيني المناوئ لواشنطن. فالزعيم البرازيلي لم يعد رمزاً داخل حدود بلاده فحسب، بل أصبح يشكّل عماد الثورة وملهمها على امتداد أميركا الجنوبية.