«صراع عروش» في حزب «المحافظين»: هل يحمل جونسون مفاتيح «10 داونينغ ستريت»؟

«صراع عروش» في حزب «المحافظين»: هل يحمل جونسون مفاتيح «10 داونينغ ستريت»؟

أخبار عربية ودولية

الثلاثاء، ١١ يونيو ٢٠١٩

تستبق لندن صيفها بلهيب معركة خلافة رئيسة الوزراء المستقيلة تيريزا ماي داخل حزب «المحافظين» الحاكم. معركة طاحنة، تجري وفق قوانين داخلية جديدة، وفي إطار نتائج الانتخابات الأوروبية الأخيرة، التي أفرزت معطيات حاسمة بشأن توجهات الناخبين البريطانيين. السيناريو الأقوى أن بوريس جونسون سيكون رئيس الوزراء وسيقود البلاد في رحلتها المشؤومة خارج الاتحاد الأوروبي، بينما يستعد أتباع توني بلير لتفجير حزب «العمّال» المُعارض، من الداخل.
مع نهاية الأسبوع الماضي، استقرّ عدد المرشحين الرسميين لخوض المنافسة على منصب رئيس حزب «المحافظين» الحاكم في بريطانيا ــ وتلقائياً مرشحه لتولي منصب رئاسة وزراء المملكة المتحدة ــ على أحد عشر اسماً، بانتظار قرار وزيرة الدفاع الحالية بيني موردونت الترشح من عدمه. ولا يعكس هذا العدد الكبير نسبياً من المتنافسين، أي انقسامات عملية أو نظرية حول السياسات أو التوجهات العامة للحزب، بل صراعات شخصية بين ذوات متضخمة لمجموعة من السياسيين النخبويين المستعدين للتضحية بأية مصالح عليا مقابل تسلّمهم مقاليد السلطة. وحتى في مسألة «بريكست» ــ أو إدارة ملف العلاقة بالاتحاد الأوروبي الخلافية ــ فإن نتائج دورة انتخابات البرلمان الأوروبي بنسختها المحلية، التي أعطت حصة أكبر بكثير لحزب «بريكست» اليميني مقارنة بـ«المُحافظين»، ستدفع جميع الطامحين إلى خلافة ماي في اتجاهات أكثر يمينية، ونحو تنفيذ «بريكست» باتفاق أو من دون اتفاق، قبل انتهاء المهلة الحالية في 31 تشرين الأول/ أكتوبر المقبل.
قوانين الانتخاب الجديدة التي أقرّتها لجنة حكماء «المحافظين» (المعروفة بلجنة 1922)، والتي تطلب أن يحظى المرشح بتأييد ثمانية من نواب الحزب (من أصل 313 نائباً في مجلس العموم) لأجل قبول طلبه، ستساعد دون شك على تصفية المرشحين بسرعة في المرحلة الأولى (بداية من 13 الحالي)، للوصول إلى مرشحين اثنين لخوض اقتراع حزبي على مستوى القاعدة (160 ألف عضو) في النصف الثاني من الشهر المقبل، ليعلَن على إثرها اسم المرشح الحائز ثقة الحزب (بداية أسبوع 22 تموز/ يوليو).
وبحسب بورصة الأسماء الحالية، يحظى وزير الخارجية السابق بوريس جونسون بتأييد 46 من النواب، يليه جيريمي هانت (32)، ومايكل غوف (29)، ودومينيك راب (24)، وساجد جافيد (17)، ثمّ مات هانكوك (11)، بينما لا يزيد عدد مؤيدي بقيّة المرشحين على أصابع اليد الواحدة. لكن نحو 140 نائباً آخرين لم يعلنوا نياتهم التصويتية بعد (فضلاً عن 60 منهم معارضين لـ«بريكست»)، ما يبقي اللعبة مفتوحة عملياً لكل اللاعبين، ولا سيما أن تحالفات انتقامية قد تنشأ في الكواليس، بعد الجولة الأولى التي سيستبعد منها الحاصل على أقل مجموع أصوات، إلى جانب كل من لم يحظَ بتأييد 17 نائباً على الأقل، ثم 32 في دورة ثانية. هذا ما يصفه البعض بـ«صراع عروش» دموي على نسق «الفانتازيا» الأميركية المعروفة. وإذا نجح جونسون في تجاوز ألغام هذه المرحلة الأولى، ولم يتحالف الآخرون لإسقاطه، فإنّه يبدو إلى الآن المرشح الأكثر شعبية بين قواعد الحزب، وعلى الأغلب سيحظى بالمنصب الحزبي الأعلى، ويترشح لرئاسة الوزراء.
حملة جونسون انطلقت بالفعل، وقد وزّع فريقه الانتخابي مقطع فيديو له على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو يعد ناخبين بأنه ملتزم إنهاء عضوية المملكة في الاتحاد الأوروبي في موعد أقصاه نهاية المهلة الحالية نهاية شهر تشرين الأول/ أكتوبر، سواء باتفاق أو من دون اتفاق. لكن الحملة تعرّضت مبكراً لهجوم شرس من قانونيين وإعلاميين، بعدما نقل عنه قوله إنه سيمتنع عن تسديد قيمة فاتورة الطلاق للأوروبيين (39 مليار جنيه إسترليني)، وهو أمر متعذّر بحسب طبيعة الاتفاقات الموقعة بين الطرفين، ويمكن أن يجعل من لندن طريدة للقانون، في حال توقفها عن الدفع. وقد كانت هذه الهفوة الجديدة بمثابة تذكير للناخبين بقدرة هذا الرجل الفائقة على تكرار السقطات العلنية، لدرجة أن اسمه الشعبي هو «المهرّج»، وهو اللقب المتعارف عليه لوصفه بين القادة الأوروبيين كذلك.
لكن بعيداً عن المثالب الشخصية، يعبّر جونسون عن تيارٍ شعبوي متطرّف التوجهات تتصاعد أسهمه بين الغالبية البريطانية البيضاء هذه الأيام، ويمثّل أملاً في محاولة إنقاذ «المحافظين» لحزبهم من الابتلاع، على يد فريق نايجل فرّاج وحزبه (المفاجئ) «بريكست». جونسون لم ينسَ في حديث عام له، الأسبوع الماضي، التلويح بخطورة السماح لجيريمي كوربن ــ الزعيم اليساري لحزب «العمّال» ــ بتولّي السلطة، وضرورة إيقافه مهما كان الثمن، مستبعداً في الوقت ذاته اللجوء إلى خيارات الانتخابات العامة المبكرة، أقلّه على المدى المنظور. حصل هذا البرنامج الانتخابي على دعم استثنائي من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أثناء زيارته لندن، عندما صوّره بإيجابية في معرض حديثه للصحافة بعد الاجتماع بتيريزا ماي، معبّراً عن ثقته التامة بأن جونسون سينفذ المهمة ــ أي رئاسة وزراء بريطانيا ــ بنجاعة. ولحقت بترامب صحف بريطانيا الكبرى ــ اليمينية التوجهات بمجملها ــ فأفردت لجونسون الصفحات مقابلات ومقالات، بينما تصدرت صوره أغلفتها.
مع ذلك، فإن رغب بتولّي المنصب التنفيذي الأعلى في البلاد، فسيكون مضطراً، بنحو متصاعد، إلى أن يتبنّى اتجاهات يمينية أكثر تطرّفاً من تلك التي يتموضع فيها حزبه تاريخياً (يمين الوسط)، بدايةً للخروج بأقل الخسائر من كابوس حزب «بريكست»، ولاحقاً لقيادة بريطانيا نحو انفصال ــ حادّ إن تطلّب الأمر ــ عن المنظومة الأوروبية، وما قد يعنيه ذلك من حاجة ماسة لبريطانيا للانخراط ساعتها بقضّها وقضيضها في المشروع الأميركي تكون جرماً تابعاً ومطيعاً، لمحاولة استدراك الآثار السلبيّة لـ«بريكست» من الناحيتين الاقتصادية والاستراتيجية. وسيتعيّن، حينها، على المملكة توقيع اتفاقيات عاجلة مع شركاء تجاريين جدداً: بداية إسرائيل ــ التي وقعت بالفعل، وستصبح بوابة اقتصاديّة مهمة للسوق البريطانية على العالم ــ وتالياً الولايات المتحدة كما الأصدقاء ــ الكرماء ــ في الخليج. هذه التشبيكات الاقتصادية البديلة ستعني بالضرورة تمتين التحالف السياسي الرجعي: واشنطن ــ لندن ــ تل أبيب ــ الرياض، وكذلك فتح الأسواق البريطانيّة، المحمية إلى الآن بترسانة قوانين الغذاء والدواء الأوروبيّة الصارمة، للمنتجات الأميركية الرديئة كما الصناعات الإسرائيلية، فضلاً عن مزيد من التورّط في لعبة مافيا تبييض الأموال الخليجية، التي جعلت لندن واحدة من أكثر عواصم العالم فساداً، وفتح هيئة الصحة القوميّة البريطانية العامّة ــ التي تدير القطاع الصحي بأكمله في البلاد ــ أمام المستثمرين الأميركيين والشركات الرأسماليّة الكبرى، والتوسع في بيع الأسلحة المتقدّمة للسعودية وأنظمة الخليج.
هذا السيناريو مرتبط بقدرة جونسون ــ إن سمّاه الحزب الحاكم في 22 تموز/ يوليو المقبل ــ على تجاوز قطوع ثقة مجلس العموم البريطاني، الذي ما زال تحالف «المحافظين» وحزب «الديمقراطيين الوحدويين» اليميني ــ إقليم إيرلندا الشماليّة ــ (319 نائباً)، يمتلك أغلبيته البسيطة فيه. وهذا يعني أن يتعافى الحزب الحاكم سريعاً من جروح صراع العروش الحالي، ويتوحّد وراء المرشح المنتصر، وهو الأمر المتوقع وفق الخبرة التاريخية. لكن لدقة الأوضاع، ولتقليص احتمالات الفشل، فإن نواب حزب «العمّال» اليمينيين من أتباع توني بلير ــ وهي كتلة وازنة في مجلس العموم ــ سيخدمون مشروع جونسون المتأمرك من الجهة الأخرى، إذ هم على وشك الشروع بتنفيذ انشقاق واسع لهم وتأسيس حزب «عمّال» بديل، يسحب البساط من تحت أرجل جيريمي كوربن ورفاقه ــ يسار الحزب ــ ويشتّت الأصوات في مجلس العموم على نحو يضمن إبعاد هاجس تولّي كوربن مقاليد الحكم، أقلّه لغاية الانتخابات العامة المقبلة ــ 2022 ــ ويلقي بمفاتيح «10 داونينغ ستريت» (مقر رئاسة الوزراء في لندن) ثمرة يانعة في يد جونسون أو أمثاله.