ما بين كارتر وترامب: إيران شمّاعة فشل

ما بين كارتر وترامب: إيران شمّاعة فشل

أخبار عربية ودولية

الثلاثاء، ١٢ فبراير ٢٠١٩

لطالما اعتمدت واشنطن في استراتيجيتها تجاه طهران على موازاة التهديدات بشنّ هجوم عسكري وفرض العقوبات الاقتصادية، مع خطاب سياسي حادّ وسردية تضمر مفارقات غير قابلة للتصديق في أحيان كثيرة. وغالباً ما كانت تواكب الرواية الأميركية تغطية إعلامية واسعة تساعد في انتشارها، بل في ترسيخها، إلى أن تصبح نمطاً سائداً
تعود أولى فصول الخطاب الأميركي ضد الجمهورية الإسلامية في إيران إلى 4 تشرين الثاني 1979، حين اقتحمت مجموعة من الطلاب السفارة الأميركية في طهران ــ دعماً للثورة الإسلامية واعتراضاً على استضافة الولايات المتحدة للشاه ــ واحتجزت فيها نحو 50 موظفاً ومواطناً أميركياً لمدة 444 يوماً، حتى 20 كانون الثاني 1981. حدثٌ كان له تأثيره على الفترة التي شهدته، والفترات اللاحقة، فيما كانت من أبرز نتائجه القضاء على فرص جيمي كارتر لإعادة انتخابه رئيساً لولاية ثانية، بسبب ما وصفه البعض بـ«عدم تمكنه من إدارة الأزمة كما يجب»، أو «ضعفه في إدارة السياسة الخارجية». يُمكن وصف هذه الأزمة بأنها إشارة لانطلاق حرب بين البلدين، من دون أسلحة ثقيلة أو غيرها من الأدوات العسكرية. فالتهويل الإعلامي الأميركي، في مقابل الاستفزاز الإيراني وتكثيف الغموض بشأن الإدارة الجديدة للبلاد، كانا من أبرز خصائص تلك المعركة.
شهدت تلك الفترة ولادة عبارة «الملا المجنون» في الولايات المتحدة، في مقابل مصطلحَي «الشيطان الأكبر» و«الموت لأمريكا» في إيران. وبدأت معها تغطية إعلامية تمحورت حول فكرة أساسية، هي أن «الولايات المتحدة تواجه أزمة عالمية كبرى». وللترويج لها، عمدت واشنطن إلى اللجوء إلى السردية الكلاسيكية عن الأَسر (captivity narrative)، بهدف التأثير في الفهم الشعبي للقضية، والحرص على استمالته إليها. وكما تستند «سردية الأسر» إلى الخطاب الذي يروّج لـ«الأميركيين المتحضرين والأحرار، في وجه الهنود البربريين غير الأحرار»، اعتمدت التقارير التي تناولت أزمة الرهائن على تناقضات مشابهة، خصوصاً في ما يتعلق بالإسلام.
في كتاب «متجه إلى المجد: أزمة الرهائن كمثال لسردية الأسر في إيران»، تطرّقت كاثرين سكوت إلى مواضيع وعناوين برزت في دوريات مثل الـ«تايم» و«نيوزويك»، نشرت تقارير دعت من خلالها القراء إلى تخيّل صدمة الأسر في أيدي «البربريين»، في وقت سعت فيه أصوات أخرى إلى الدفاع عن الشاه، مصفّقة لسياسته الاقتصادية.
«الرجل العنيد، البالغ من العمر 79 عاماً، جرّ خفّيه المترديين وصعد إلى السطح، حيث راح يلوّح للحشود بلا مبالاة»، وصفٌ نشرته مجلة الـ«تايم» للإمام الخميني. وفي محاولة لتعزيز صورة مستشرقة عن الإسلام، أضافت: «عيناه المقنّعتان اللتان تشعان بالحقد من تحت العمامة السوداء تنظران إلى الأعلى، كأنه يسعى للحصول على الوحي من فوق»، خاتمة بالقول: «بالنسبة إلى المسلمين، إنه الإمام القائد الروحي الذي تُعَدّ تعاليمه غير قابلة للمساءلة. أما بالنسبة إلى مئات الملايين الآخرين، فهو متعصّب ذو أحكام قاسية». «العيون المقنّعة» و«الإشعاع بالحقد»، عبارتان تجلّيان استراتيجية استشراقية تحوّل الشرق الأوسط إلى مكان مليء بالأخطار، وذلك ضمن صورة أكثر شمولية عن الأميركي المتحضّر الذي يواجه بحراً من الوجوه المتعصبة، في استحضار لـ«الهنود المتوحشين».
وبالاستناد إلى هذه التوصيفات وطريقة التعاطي الأميركية، بدا من الواضح أن هناك الكثير ممّا لا يفهمه العالم الخارجي بشأن النظام الجديد في إيران. والأمر هنا لا يتعلّق بخلفيته وفلسفته السياسية، ولكن أيضاً باتجاهاته في المستقبل، وميله إلى الاستقلالية، وعدم الرضوخ للقواعد الأميركية، خصوصاً في ظلّ شعار «لا شرقية لا غربية» الذي أطلقه الإمام الخميني. وقد تكشّف ذلك، عبر الأحداث التي جرت بين البلدين، على مدى العقود الماضية، في وقت كان جلياً فيه الإرباك الذي عانت منه سبع إدارات رئاسية أميركية متتالية، في تعاطيها مع إيران. منذ ذلك الحين، «بدا كأن الإيرانيين لا يمكنهم فعل أي شيء ينقذهم من قدح الحكومة الأميركية»، وفق تعبير الخبير بالشؤون الإيرانية في جامعة منيسوتا، ويليام بيمان، الذي رأى في كتابه «الشيطان الأكبر في مواجهة الملالي المجانين» أن أزمة الرهائن رسمت العلاقة بين البلدين، خصوصاً أنها «كانت مصدر إذلال لأمة لم تكن قد تأقلمت بعد مع دورها كقائد دولي».
انطلاقاً من هذا الواقع، راحت الإدارات والنخب السياسية الأميركية تستثمر في هذه الأزمة، وفي غيرها من الأحداث العالمية اللاحقة، مستخدمة إيران كشمّاعة تعلّق عليها فشلاً هنا، أو انفلاتاً للسيطرة هناك. وفيما اقتصر تعامل إدارة كارتر مع المسألة على اللجوء إلى العقوبات الاقتصادية، وقطع العلاقات الدبلوماسية، فقد استغلّها رونالد ريغان لتقديم ترشحّه للرئاسة على أنه «المُنقذ» الذي سيعيد إلى بلاده صورتها القوية. في بداية عهد هذا الأخير، عاد الرهائن إلى الولايات المتحدة. وبعد ثلاث سنوات على انتخابه، أي عام 1984، صنّفت واشنطن طهران على أنها داعمة للنشاطات الإرهابية، لتتطوّر بعدها الاتهامات، وصولاً إلى وصف إيران بأنها «أكثر دولة داعمة للإرهاب». بالتوازي، بدأت دائرة الاتهامات تتوسّع إلى دعم مخططات لحزب الله والجماعات الفلسطينية ضد إسرائيل. هذا فضلاً عن اتهامات أخرى بـ«تقديم دعم إلى المجموعات المتطرفة في آسيا الوسطى، وفي أفغانستان والعراق، ومنها تلك التي لديها صلات بتنظيم القاعدة».
وفي استمرارية لهذا المشهد، دخلت عبارة «محور الشر» على الخطابات الأميركية، فشكّلت أساس عقيدة جورج بوش الابن في عام 2002. ثمّ وصلت العدائية الأميركية تجاه إيران إلى ذروتها في عام 2004، حينما كان بوش يتعرّض للانتقادات، بسبب الهزائم التي واجهت بلاده بعد اجتياح العراق وأفغانستان، فضلاً عن تقصير إدارته في تعاطيها مع هجمات 11 أيلول. في مواجهة ذلك، تبنّت هذه الإدارة النهج المجرَّب، محاوِلة صرف نظر الصحافة السلبية بإلقاء اللوم على طرف آخر، هو طهران. ولأن إيران كانت «مُشيطَنة» أصلاً، فقد أملت الإدارة الأميركية أن يجري التعامل مع أي اتهام ضدها على أنه حقيقة، حتى وصل الأمر ببعض المحلّلين في مركز «أميركان إنتربرايس» التابع لـ«المحافظين الجدد» إلى لومها على الاستخبارات الخاطئة التي قُدِّمَت لتبرير الحرب على العراق. في خلاصة المشهد، قدمت إدارة بوش لائحة طويلة من الاتهامات المتواصلة ضد إيران، وقد راوحت بين عدة فئات: 1ــ منها ما يتعلق بما يمكن أن تقوم به في المستقبل، مثل تطوير الأسلحة النووية. 2ــ شكوك غير مثبتة تتعلق بتورّط إيران في هجمات سابقة على الولايات المتحدة. 3ــ التآمر مع أعداء الولايات المتحدة. وبرغم أن كل هذه الاتهامات انهارت عند التحقّق منها، إلا أنها تحوّلت إلى حقيقة بالنسبة إلى كثيرين، لمجرّد أن الإدارة الأميركية أطلقتها.
في عهد باراك أوباما، شهدت المقاربة الأميركية للجمهورية الإسلامية اختلافاً، كان قد جرى التأسيس له في نهاية عهد جورج بوش الابن، حينما توصّل تقرير صادر عن وكالة الاستخبارات إلى أن «إيران أوقفت برنامجها للأسلحة النووية في عام 2003»، وذلك بعدما نصّ تقرير سابق، عام 2005، على أن إيران «كانت مصمّمة على تطوير أسلحة نووية». وعلى اعتبار أن هذا التقرير قد يكون مبرراً لطريقة تعاطي إدارة أوباما مع إيران، فقد اعتمد هذا الأخير نهجاً من مسارين، وفق تعبيره: العقوبات والدبلوماسية. إلا أن التجسيد الأول لمقاربته ظهر في خطابه الذي وجّهه إلى الشعب الإيراني في «عيد النوروز» في 21 آذار 2009، حيث أشار إلى إيران على أنها «الجمهورية الإسلامية»، الأمر الذي عدّه البعض اعترافاً رمزياً بالثورة الإسلامية. بالاستناد إلى هذه المقاربة، توصّل أوباما إلى الاتفاق النووي الذي كان يصبو إليه، ليأتي بعده دونالد ترامب، وينسف إرثه ويعيد الخطاب الأميركي إلى نصابه، الذي يبدو أنه سيستمر ما دامت الجمهورية الإسلامية قائمة في إيران.