انعدام الشهود

انعدام الشهود

افتتاحية الأزمنة

السبت، ٩ مايو ٢٠١٥

لم يعد أحدٌ من الفردوس المنشود، أو الجحيم الموعود به المختلفون مع الحياة ليخبرنا، والوعود الهائلة بذهاب جُلّ البشرية إلى هنا أو هناك، بعد أن سكنت العقل البشري منذ ذاك اليوم، الذي وجدنا فيه على كوكبنا الحيّ هبوطاً أو إنباتاً، واستسلمنا لهاتين النظريتين الماورائيتين، بقوتهما اللتين جلدتانا فكرياً، واستثمارهما بدرجاتٍ، فاقت الامتياز من المؤسستين التاريخيتين، الدينية والسياسية، والمستمرتين على حساب المجتمعات المُستَغِلّة والمُستغَلّة من بعضهما، متفرقتين أو مجتمعتين، واللتين تؤكدان نظرية النهاية الواقعة لا محالة على جميعنا، حيث البقاء الدائم لهما، ونتاجهما حوادث كوارث طبيعية أو اصطناعية، جرائم اتهامات، ملفات تراكمية، فلسفتهما حروب نتاجها شهداء بلا شهود، جرحى يشهدون على الشهادة، أفعالٌ قسرية أو مبرمجة، إعدامات نتاج خيانات أو تلفيقات، لا أحد يقدر أن يمنع الموت، وأيضاً لا أحد يستطيع الاستمرار من دونه، ولا أحد عاد، فتحدث عما يجري أمامه أو خلفه أو معه، فقط الذي سكن العقل من الموروث التاريخي الغيبي، ينبئ بأنّه شهد، وشاهدٌ على المشهد، وكرّم أو عاقب ضحايا الموت الهائلة، وشكّل مستوعباً فكرياً، راقب من خلال مصاحبته لما يجري الجرائم كلّها. أما مَن يشهد على المشهد؛ فنجده الأقوى أمام قوانا، والتي مهما بلغت، فهو يمتلك قوة قهرنا ببساطة، محققاً بذلك شروط نظريته التي تحمل المنطق الإيجابي الجاد والناجح في نتيجتها، ألا وهي موتنا بأشكال مختلفة؛ العنف، الحروب، الجوع، الانفعال، الجريمة بكل أشكالها، الحوادث الطارئة، سلطة الطبيعة، التلف القادم من التراكم العمري، وانتهاء الفعالية الفيزيائية والكيمائية للجسد الإنساني، المنتظرون على القائمة الطويلة، التي لا تمتلك نهاية أكثر مما نتوقع. فهو لا يعرف كبيراً أو صغيراً، ومن كل الأجناس الحيّة والجامدة، ولا يمكن لي ولكم توصيفه بكلمات، أو حتى مجلدات، فقط نقوم فيما بيننا بترحيله مكرّماً أو مجرماً، شهيداً بمآثره أو اعتياداً نجري العزاء، نعلم بالخيال، أنه ذاهب إلى الفردوس، أو إلى الجحيم من بين المنقول الساكن في العقول والمعقول واللامعقول.
الأحياء ينسون، الأموات يفنون، يغدو البشر أرقاماً، تختصر بعضها فرادى وجماعات، مأساة لم يدركها الفكر من باب أنّها لم تكن، ولن تكون جُلّ همّه، فهي واقعة، وكما قلت لا محالة، رغم هول وهمجية وقوعها، إنّي لأعتقد أن جميعنا شهداء عند وقوع الموت على أحد ما، بحكم انتهاء شهادته على ذاته، وعلى ما سيأتي بعده، وبانتفائها منه. رويداً رويداً، ينتفي بفعل التقادم والنسيان، وانشغال المحيط بالباقي، أو بالقادم الجديد.
إن أردنا الانتقال إلى عملية التطور المادي، من خلال امتلاكنا لنواصي العلم والفهم ودمجهما بالعلمية المادية، وربطها بالجوهر الروحي لا بالمظهر، وأيضاً قدرتنا على تجاوز شهود الحياة، يجب أن نتعلم، أن نظرية الموت البطيء، التي تكمن فيها فلسفة القصاص الحامل للإذلال العظيم والعذاب الأليم، وانتهاكنا لحرمات بعضننا مادية أو معنوية أو لا مادية، من خلال الاعتداء على إنسانية الإنسان، التي تجسد حضوره على مسارات الحياة السليمة منها والخربة والتي تحمل بين مفرداتها نظرية الحياة بين الفردوس والجحيم؛ تمنحنا فرصة الولوج إلى جذر المشكلة، ورصدنا لتفاصيل حياتنا اليومية، وتحولاتها من لحظة إلى أخرى، يحوّلنا من أنصاف شهداء على الموت، إلى شهداء فاعلين ومنتجين في الحياة، ضمن نظرية وحدة الشهود، ننهي من خلال انخراطنا ضمن دائرتها، وحبنا لفلسفتها، التي أدت لوجودنا بإثبات نظرية الشهود، ويبعد كثيراً، أو يركز فكرة القيامة ضمن دائرة النسيان، وليكن بعدها ما يكون، أي أن يتحول الكلُّ، ليشهد على بعضه.
الحياة وحدها تشهد على ضحايا الموت ووتائره المتصاعدة، ليس فقط منه، إنّما على القتل المميت لبعضنا، نسأل: لماذا ومن أجل ماذا؟ فمن يستطع وقف القتل، يجب أن يذهب إليه حيّاً، فيعلم ضعفه وقوته، فيُنهي الأول ويتحكم بالثاني، مع إيماني بطبيعته الفريدة، والتي لا يقدر أحدٌ على إيقافها طبيعياً، بل نمتلك إمكانيات إيقافه قسرياً، بحكم أن أدواته التي بين أيدينا، تخطط لإحداثه أفكار أنانيتنا وفرديّتنا وتسلطنا على طبيعته وطبيعتنا.
قد يُصدم الكثيرون من طرح أفكار كهذه، والحقيقة صادمة، إنّما نحن البشر، نتجاهل الحوار حولها، والخوض في غمارها، فلغة العصر سريعة من أجل بلوغ الأهداف، اصطبغ طابعها بطابع الموت، حيث إن مكوناتها الفقر والغنى والجنس والتخلف، الجوع لكل شيء، وعدم الاكتفاء من أي شيء، فقط يقف الكلّ عاجزاً أمام مفردة الموت، وعالم عصريٌّ يرفض الضعف، ويسعى للقوة، مَنْ على مَنْ، على بعضه، على كلّه، من دون أن يدري أنّ الموت ينتظر الجميع، والشهادة تمتلكها الطبيعة، تضحك علينا، بأن هناك شاهداً وشهوداً، وهي تنتظرنا في نهاية الطريق بلا شهود.
د.نبيل طعمة