تآمر الماضي

تآمر الماضي

افتتاحية الأزمنة

السبت، ٢٤ يناير ٢٠١٥

على الحاضر، يحدث هذا بجلاء، فكيف بنا نستسلم له، وكم نحن بحاجة لولادة جديدة، وإذا ما أردناها أنْ تتحقق فلابد لنا من نسيانه، أو على أقل تقدير ركنه بعيداً وعميقاً، فالذي يحاكمه يعلم بأنّه كبير، والكذبة كبيرة، والكذبة لا يمكن لها أنْ تتحول إلى حقيقة إلا عندما نصدّقها. لندع كلّ ذلك جانباً ونفترض أنّ به جمالاً نستذكره، فنراه تغطى بوشاح أسود ليلفنا الحزن، يتعلق بنا كلبلابة غرزت أشواكها في أجسادنا لا تريد عنا انفصالاً، مشاهد مؤلمة، لذلك علينا أنْ نذكر لماذا نبتسم، لمن نتنفس هواءً ممتزجاً بروائح الموت والألم والجراح، نستقبل يوماً جديداً نستعد فيه للحياة، نمتلئ رغبة في الاستمرار، الماضي يسيطر على أيامنا، نجده يتآمر على استيقاظنا، تستعد النيران، تنتظر رياحه كي تؤججها، تنشر دخانها، كروم الزيتون والعنب والتين تحمل قنابلَ تتدلى، زرعها الماضي بغاياته الخبيثة، إرادته تفجير حاضرنا، كي لا نلتقي بالغد بالمستقبل، نراه يجتهد كي يعيدنا من الحاضر السلبي إلى الماضي الأسوأ، فالحاضر والماضي يتعايشان ليدمرا بعضهما، ولنعدو نحن بسرعة إلى الغد، إلى المستقبل، فالوراء ممتلئ بالكآبة لحظة أنْ نستعرضه، ونحن نتغنى به، فإذا دققنا فيه نجده اجتياحات، حروباً، نكبات، خسائر بالجملة والمفرق، تاريخاً كتبه بقايا المهزومين معتبرين أنّهم منتصرون على هواهم، فتحول إلى تأريخ مخادع وكاذب، عنف وتعصب وإرهاب، انتقل إلى الحاضر، أو استعاده الحاضر بكلّ ما فيه من آلام وأوجاع، ليتناغم فشل الماضي مع خداع الحاضر، فيظهر المستقبل ميتاً قبل ولادته، اختلطت الطبيعية بعد أنْ وحّدت الزمنين ليبقى الثالث في مهب الريح. 
عندما نحلل الماضي نجد بأنّه ليس معنا، والحاضر نتابعه فنجده ضدنا، العدو والصديق وقفا في خانة واحدة يرقبان مصيرنا، فبيئتنا لم تعد مفهومة لهم ولنا، انكشف الواقع فغدونا نبحث عمن يحتوينا، فقدنا تراث العيش ورفضنا التعايش، وبتنا في خطر داهم، ولم يبقَ لدينا إلا فرصة أخيرة، ونفق مظلم به بصيص من شمعة أمل، وجسر عتيق مهترئ يسألنا متى سنمرّ عليه بسرعة قبل أنْ يسقط وينهار، فهو يشكل لجميعنا فرصة العبور إلى الحياة، هل من خارطة للطريق، وما دور العميل المزدوج المتنقل بين الماضي والحاضر، ذاك الذي يحمل اسماً واحداً يطلق عليه المستقبل، هل هو في الأمام أم في الخلف، أين نحن، مَن يتنبأ عن المستقبل، مَن يأتي بالتسوية، مَن يحلّ المعضلات، مَن يُقدم السعادة البسيطة للمجتمعات العربية وأجيالها الجديدة التي تتوالد في الحاضر بكثافة، حيث التكاثر المرعب مسكونٌ في جوهر الدين تحت الخيام بين الركام، تظهر من منفى الماضي، لا تتحرر منه تريد الحاضر دون وعي، تنشد الوصول فوراً إلى المستقبل. ضحايا الحاضر قتلهم الماضي بعد أنْ تآمر عليهم تحت مسمى المستقبل الجديد، فهل هناك مستقبل قديم وعتيق وبالٍ، وهل هناك منه الوسط كي يكون جديداً أو مالكاً قدرة الانتقال إلى الأمام  إلى درجة الوسطية، أم إنّه مجهول لمجموعتنا العربية فقط، الآخر يعرف عنا وعنه كلّ شيء، خزائنه ممتلئة بأسرارنا، فإذا تابعناه نجده يذهب إليه بأمان ودون رهبة أو خوف، بحكم أنّه منتظم ومنظَّم وأقرب إلى المعلوم لا يهاب وجودنا ولا يأبه له، من باب أنّ العلم به يرسم خطاه بثقة ورؤى واضحة هادئة وأمينة.
هل نحن أمة في وطن أم وطن من أمة يمتلك أسساً، أم أنّنا وطن وأمة علينا استعادة حضورهما من ذاك الماضي المتآمر عليهما، وما هي  ماهية هذا الوطن المسكون في أعماقنا وبين جنبات رؤانا المتطلعة إلى الغد والتي توارثناها ونسأل هل هي ماضينا أم حاضرنا أم مستقبلنا، أم إنّ هذه الثلاثية لا تؤمن برابطة الأزمنة كونها الحقيقة الوحيدة الباقية، ماذا يعني الاصطفاف لأجل المستقبل والالتفاف عليه، ما معنى خلود شعبٍ يمتلك بقايا وطن، وكيف يُخلد وطنٌ بشعب يتآمر مع ماضيه على مستقبله، أليس المستقبل هو الخلود الدائم بعيداً عن الماضي والحاضر، لماذا لا نمارس الاحتجاجات على الماضي وصوره القاتمة التي أوصلتنا إلى حاضر مظلم ممتلئ بالمستنقعات والرمال المتحركة، أيُّها الناس إلى أين جميعنا ذاهبون.
د. نبيل طعمة