الشعب كيان آخر

الشعب كيان آخر

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٢٤ يناير ٢٠٢٣

مؤكدٌ أنّ الدولة ضرورة حتمية لأي مجتمع، وجودها يعني تطبيق القوانين على الجميع، ومن دونها ينهار المجتمع، ويسقط في الفوضى، ومهما بلغ ضعف أدائها إلا أنها أفضل من عدم وجودها، والشعب مصدر حضورها.

 إذاً كيف يجب أن تكون العلاقة التبادلية بين الشعب والدولة؟ لا شعب بلا دولة، ولا دولة بلا شعب، ويقع واجب الدولة بالاهتمام بشؤون الناس ورعايتهم وتأمين سلامتهم وأمنهم وأمانهم وحماية أملاكهم من اعتداء بعضهم على بعض، واعتداء أعدائهم عليهم، وخاصة عندما يتحول العالم للسطو على بعضه، ولكن هل تكفي مؤسسات الدولة في حمل راية الدفاع والحماية وتأمين المستلزمات؟ أم إن هناك مؤسسة أخرى متوافرة في كل دول العالم، يستعان بها، ألا وهي المؤسسة الدينية، التي يفترض أن تعنى بالشأن الروحي، وعندما يكون هناك تنوّع يكون أكثر من مؤسسة، لكنها جميعها مرتبطة بالإله، بحكم قيادته لها بتعاليمه الروحية التي أسكنها في الأديان، وجعلهم قيّمين عليها، ورعايتها في عقول وقلوب البشر من أجل علاقتهم ببعضهم وعلاقتهم به.

إذاً للمؤسسة الدينية أن تبدي الرأي، وتقدم النصح، لكنها لا تستطيع أن تقرر كيف تحكم الدولة، ولا الكيفية التي تطبق فيها القوانين، ومعها تمتلك الدولة الحقوق في تقديم الرأي والمشورة للمؤسسة الدينية بشأن الأمور المدنية والالتزام بسياسات الدولة العامة، ولا  تتدخل في صلب التعاليم ونظم العبادات، إلا إذا خرجت عن سياقها التعبّدي والأخلاقي، فعمل المؤسسات الدينية أكثر من مهم، لتوضيح فكرة الدولة وضرورة الالتزام بثوابتها وضرورة الالتزام بقوانينها ونظمها وانتظامها، وأيضاً تعزيز القيم الأخلاقية عبر نشر الوصايا المشتركة بين الأديان التي تعزز حضور الإنسان وفعاليته ضمن إنتاجية الدولة، كما تعهد الله أنه لكل أبنائه، لأنهم يمثلون رعيته وعياله، وأن ينصفهم في حياتهم وآخرتهم، نشهد تعهد الحاكم أمام الله عندما يقسم به بأن يحكم شعبه ويرعاه ويصلح شؤونه ويحميه ويحقق العدالة فيما بين أفراده، وهذا يتطلب أيضاً من الشعب الذي يؤمن بالله ودولته أن يخلص له ولها، وأن يقابل الحاكم بأن يكونوا صالحين في وطنهم وأوفياء صادقين مخلصين لدولتهم، ولمن اختاروه لحكمها كتعهدهم في سرهم لله، علاقة تبادلية بين الفرد والإله، وبين الدولة وأفرادها وقائدها، وعندما تختار الدولة حكومة لإدارة شؤون الشعب فهي لا تختزله فيها، لأن المسؤولية مشتركة بين الشعب والحكومة، والغاية تقدم الدولة الذي لا يكون إلا بتحقيق الخير العام للجميع، فالشعب له الحرية والحق في المشاركة وتقدير التقدم والمراوحة والتأخر والتأثر وتحديد سياسة الحكومة، ولاسيما في الشأن العام، ولها يكون الحق في رسم السياسات الداخلية ضمن كل محاورها وتوجيهها، فالحكومة لا تستطيع أن تختصر الشعب في كيانها، لأن للشعب كياناً آخر اسمه الدولة، ما يؤكد صحة المعادلة، الشعب والدولة، ولا يقال الشعب والحكومة، لأنها نتيجة لقرار هذه المعادلة، ويفترض أن تكون إيجابية، لأنها إن لم تكن على مستوى الشعب والدولة فسيتجهان معاً لاستبدالها بالأفضل منها، لأن الشعب يمتلك الحرية والتأثير من خلال الاشتراك أو إشراكه في تحديد سياسة دولته، وخصوصاً في محاور اقتصادها الذي يريده ناجحاً دائماً، فإذا امتلك هذا الشعور فإنه يتحمل الصعاب الطارئة، ويتفاعل مع الأزمات لإيمانه بأنها منتهية، يصبر ويدعم بكل ما أوتي من قوى، وبالتالي يؤمن بدوره ضمن هذا السياق، بأنه مسؤول بقدر مسؤولية الحكومة، لأنهما معاً يجسدان حياة الدولة واستمرارها.

الكل ينتظر جهوداً أكثر جديةً، لأن الدولة والشعب يستحقان الأفضل دائماً، على الرغم من الجهود المبذولة التي لا يستهان بها، إلا أن النقد ضرورة عندما يظهر الخلل، فالكل متمسك بالدولة ومؤمن بها وبقدرتها على صناعة التوازن بين الحكومة والشعب، فإن تعمّدت بالإيمان بالدولة التي تعمل على تعزيز الأهداف الاستراتيجية في تحقيق الأمن القومي ضد الأخطار الخارجية والداخلية التي تهدد الوحدة الوطنية، فهذه تترجم حماية الدولة لمواطنيها وكامل مكوناتها، وكلما أزيلت الفوارق الطبقية والدينية بينهم، انصهر الشعب، وغدا قوة إنتاجية وإبداعية مولدة للكفاءات والقيادات وجودة الإنتاج، وتحول بكليته إلى مريد للدولة أكثر من تبعيته الروحية والقلبية أو المناطقية، نظراً لحماية الدولة المادية له وللأديان، هذه التي تمنحه الحضور والهوية العملية للتواصل والاتصال فيما بينه وبين العالم، أليس الشعب بهذه الصورة كياناً آخر؟.

 د. نبيل طعمة