ماهية التراث اللا مادي

ماهية التراث اللا مادي

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ١٧ يناير ٢٠٢٣

صونه ورعايته وتدوينه وحفظه ضمن أرشفة علمية وتقنية غدا أكثر من ضرورة، وتسميته الحداثوية التراث اللا مادي، والتي تعني التراث الشعبي بما يحتويه من أهازيج وزغاريد وأغانٍ وممارسات مرتبطة بوقائع الأفراح والأحزان في الأرياف والبوادي والمدن والحواري والأطعمة واختلافاتها، بحسب مناسباتها وفصولها والألبسة وتخصصها في المناطق والأمثلة وأسباب تداولها والصناعات اليدوية وإبداعاتها، إضافة إلى القصص والأساطير المتناقلة، وما تحمله من خيال مضاف، هذه التي ذكرت تمنحك فرصة الإجابة عن أسئلة حساسة، أهمها كيف تفكر المجتمعات في مناطقها المختلفة؟ وكيف يكون الحكم عليها؟ والاهتمام بها يكشف ويفيد من خلال ما تحتويه من معارف وعلوم اجتماعية وسياسية واقتصادية في البناء لتطويرها، ومنه نجد أن الاهتمام العالمي أخذ بالتنامي بعد الحرب العالمية الثانية متجهاً إلى التراث بكليته، وبدأ بفرزه وتوثيق مفرداته وجمله، وما يخص مجتمعاته، هذا كله ظهر مع زيادة الاهتمام بأفكار القومية والهوية التي شقت طريقها بقوة بعد تلك الحرب، إضافة إلى التركيز على العناصر التراثية التي تربط بين الإنسان وأرضه كفرد وكمجتمع ودولة.

حتى اللحظة سواد الناس لا يعرفون ماهية التراث اللا مادي، وحتى مفهوم التراث الشعبي وضرورة شرحه وتعريفه وصونه عبر الاهتمام التوثيقي وفرده كمصطلح على المجتمع والدعوة إلى التعامل معه كشخصية أصبح من الضرورة بمكان، لأنه أداة مهمة من أدوات تجذّر المجتمعات ووضعه ضمن الخزائن أو على الرفوف، فهذه المعرفة به تهمّ صناع قرار تطوير المجتمع بعد جمع وفهم عاداتهم وأفكارهم وطموحاتهم، وأيضاً يكشف عن طبيعة المشكلات التي تواجه عملية التنمية، وتسهم في الوقت ذاته بتوفير الحماية للمواطنين في أماكنهم، وأيضاً تربط تداخلهم بشكل إيجابي.

إن ضرورة الإسراع في إحداث مشروع قومي، يؤرشف لعناصر التراث اللا مادي، هو من الأهمية بمكان وأقول قومي، لكوننا مجموع أقوام ضمن هوية وطنية واختيار أشخاص من ذوي العقول النيِّرة الممتلئة بالغيرة المحبة للوطن، يؤدي إلى الاهتمام في بنائه كما أسلفت، ويدعم نهوضه، وخاصة أن العالم انتقل بعد الحرب العالمية الثانية من العام إلى الخاص، وفي عام 2003 بعد أن طرحت منظمة اليونسكو اتفاقية صون التراث اللا مادي، التي أخذت تحظى بأهمية كبرى لدى الشعوب كافة، التي أخذت باعتمادها لهذا الموضوع، ووقعت أكثر من 16 دولة عربية على هذه الاتفاقية في عام 2005م، وبدأت بفرز تراثها واعتماد الإيجابي منه، وهذا هو حال تراثنا الممتلئ بالغالي والرخيص، فما يراد من الثمين أن تتوارثه الأجيال، وفي الحدّ الأدنى أن تعرفه، وتتحدث به كما لا يجب أن يكتفى بإدراجه فقط في قوائم اليونسكو رغم أهمية ذلك، أو وضعه في الأدراج وعلى الرفوف، بل دعمه تربوياً وإعلامياً عبر إدخاله في المناهج وتخصيص برامج توثيقية ودرامية على شاشات الوسائط وقنواتها.

التراث اللامادي مهدد من تسارع الحداثة وتراكمات التسابق المادي الذي أخذ يطغى على كل شيء ووجود إستراتيجية للأرشفة، تكون نواة حقيقية للحفاظ عليه، هي من الأهمية بمكان، وصحيح أننا في مجلس الشعب أقررنا قانوناً لحماية وصون التراث اللا مادي، إلا أننا لم نتخذ الخطوات العملية الكفيلة بتنفيذه على أرض الواقع، وهنا أقترح أن يحدث معهد تخصصي للتراث اللا مادي، يتبع وزارة الثقافة وبإشراف التعليم العالي، أسوة بالمعهد العالي للفنون المسرحية ومعهد الآثار والمتاحف، يخرّج متخصصين في البحث والتقصي والأرشفة، ويقوم بتقديم المقترحات للسلطة التنفيذية.

لقد تعرض التراث اللا مادي للتعمية نتاج عدم الوعي، وناله من الازدراء والأفكار المغلوطة ما ناله، لذلك أجدها فرصة للاهتمام به، لأنه مصدر للمعرفة، وخلاصة مهمة للتاريخ الإنساني برمّته ولشعوبه بشكل خاص، وآمل في أن يكون الاهتمام به مصدراً للوعي ورافعة له، بحكم أنه آخذ في التشكل محلياً وعربياً ودولياً، وأهم من ذلك فكرياً، ويكتب هذا الوعي بداية فصل جديد لعلاقة بين الأفراد بمجتمعاتها والدول ببعضها.

 د. نبيل طعمة