كسرة الخبز

كسرة الخبز

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٢٦ أبريل ٢٠٢٢

قيمتها مرتبطة بالأخلاق السورية، وببريق الطيبة واللهفة والحميمية التي تمتزج بحضورهم الثقافي الخلاق الذي رُسم على وجوههم، الشكل الحضاري الذي يشع من جغرافيتهم يسكن عقول وقلوب سواد عوالمهم، ودمشق عاصمتهم التاريخية قدمت دائماً أفضل ما لديها، بدءاً من إبداعها في حفظ النعم، وصولاً لعطائهم الإبداعي والعلمي والتعليمي، فتعدد وجوه أخلاقها جعلها متميزة في كل شيء، وأهمها حفاظها على كسرة الخبز التي حفظتها، فحفظها الله وأهلها، لأنهم راضون بما قسم لهم، ومحافظون عليه بإيمانهم، لذلك اخترعوا للخبز اليابس الذي يزيد عنهم طرقاً شتى لحفظه، ومن ثم أكله، وأهمها كانت الفتات الشامية «فتة تسقية بزيت أو بسمنة، فتة مقادم، فتة باذنجان، فتوش وستي ازبقي، وشوربة العدس» أي إنهم كانوا ومازال البعض منهم حتى اللحظة يحافظون على كسرة الخبز، وإذا لقوها في الشارع مرميةً على الأرض يرفعونها، يقبلونها ويضعونها على رأسهم، حتى إن بعضهم يأكلها قائلاً: هذه نعمة من الله، وإذا لم يفعل يضعها على طرف آمن، ليأكلها طير أو حيوان، أو يأخذها جامع خبز.
وبساطة أخلاقهم تدل على وحدتهم الخلاقة القادمة من تنوعهم الجميل، هذا الذي يضم الأديان الثلاثة المقدسة وما فيها من طوائف ومذاهب، والكل يأخذ من بعضه، المسيحيون منهم اخترعوا أكلات الزيت، بما أنهم يصومون كنباتيين، فأوجدوا «الفاصوليا بزيت، والسبانخ بزيت، والخبيزة بزيت، والمجدرة بزيت، والبرغل ببندورة، والفول المدمس، والمقلى بالفول، واليالنجي بورق العنب وبالكوسا وبالباذنجان» وكانت «السكبة» للجوار من أهم عناصر وجباتهم المتبادلة فيما بينهم، والسبب تداخل روائح الأطعمة المطهية، وجوهر ذلك الأحاسيس الطيبة ببعضهم.
في الشام تجد العالم برمته، بأديانه وطوائفه وثقافاته إلى جانب بعضه، العالم الكبير في الشام نعم يصغر فيها، والكل يقدم كل يوم إبداعاً جميلاً وفكراً مستنيراً ولهفة وإغاثة من الكبير للصغير، ومن الغني للفقير، ومن العالم للجاهل، والحديث عنها يمكن ألا ينتهي، ويحتاج إلى مدونين وأزمان وأوقات، وما نشهده الآن من اختلاف نتاج معادلات جديدة تحاول النيل من صورتها وحضورها وهيبتها، بغاية شرذمة ثقافتها وحرف سلوكياتها.
من المسؤول عمّا يحدث الآن؟ السياسة، الاقتصاد، فسح المجال للبعض من أفراد القطاع الخاص والعام بالتمادي المادي، ما أفسد الكثرة من الطرفين، فهبت الناس تنادي بالخبز والماء والهواء، وأصبح الهمز واللمز والسباب والشتائم على كل لسان، مجتمع ينال من بعضه حتى وصل لعدم مراعاة حرمة الوطن وتاريخه ونعمه على أفراده، وتجاوز النقد المنطقي، حتى وصل إلى حدود التشريح والتقريح، وكان هناك مجتمع جديد مختلف تماماً عما بُني عليه ذاك الذي عشنا زمناً عليه، ذاك المجتمع الذي كان يصحو على أصوات التسابيح الجميلة، من فجر كل يوم عبر مآذنه ورنين نواقيس كنائسه، وفيروز تصدح من إذاعة دمشق، تطل من النوافذ والشرفات بصوتها الشجي.
لابدّ أن نجري مصارحات حول واقعنا الذي حاد عن ثوابته الأخلاقية، وحتى قيمه الشخصية التي أسس عليها، وإن الكثيرين تملكهم الجشع والفساد والإفساد من خلال إثرائهم المنظور من المجتمع على أنه غير شرعي، والثراء حق مشروع، ولكن كان وجوده أخلاقياً ومستوراً، وله أيضاً أدبياته وقيمه وسماحته، وتحول إلى حالة، وللأسف لا أخلاقية، فالتباهي والتحدي والعجرفة والموائد المسرفة أصبحت شعارات أفقدت أبناء المجتمع الرحمة، واستباح القادر الضعيف، وإذا كان الأثرياء يتنافسون في عرض ما لديهم، ويرفعون الأسعار كما يشاؤون، فهناك أيضاً هيئات حكومية أخذت بمنافستهم، ولا تتردد في ممارسة الأساليب ذاتها.
كيف نوقف كل ذلك؟ وإلى متى سنبقى نهمل كل هذه التراكمات التي أظهرت كل هذه المتغيرات إلى العلن، والخوف من تحولها إلى ظواهر رغم غرابتها وشذوذها عن أخلاق مجتمعنا؟ ولأننا أهملنا معالجة هذه الظواهر مبكراً ها نحن نحصد نتائجها التي وضعتنا في أزمات أكثر تعقيداً، وها نحن نعاني رغم محاولات الإنقاذ المستمرة من الفكر السياسي والاقتصادي للدولة التي تتنادى للاجتماعات من أجل إيجاد الحلول المستدامة، إلا أن العملية برمتها أخلاقية وثقافية ودينية، لذلك أسأل: أين دور الثقافة والإعلام والمرجعيات الدينية؟ أين دور الدراما والصحافة ورجالات سورية وسيداتها وإسهامهم في إعادة بناء الأخلاق السورية التي أعتبرها من أهم بنود النجاح؟ وإذا نجحنا في إعمارها تعمر أرضنا، ويقوى بناؤنا وبنياننا، وبها ننتصر لا من دونها، وصحيح أنها تحتاج لتضافر الجهود، والوقت أمام سلوكيات مرعبة ومذهلة، لكنها آيلة إلى زوال، ولن يطول أمد وجودها رغم تداخلها وتفاوت المسافات بين أبناء المجتمع الواحد، ومن الضروري إعادة بناء الطبقة الوسطى بحكم وجودها كرابطة مهمة، وهي المنتجة، وتدرك قيمة ما تنتج وتحافظ عليه، وصحيح أن الأحداث التي جرت عبر عقد من الزمن أحدثت آثاراً غربية غيرت وجه سورية الاجتماعي، وشوهت ثقافته وجلالة رموزه وقيم حفاظه على النعم، والاكتفاء بالبحث عن الثراء اللا مشروع والانتقام حتى من كسرة الخبز من أجل تعزيز الصراعات، إلا أن الحقيقة تقول: إننا قادرون على الحياة، فالجذور حية، والأسس متينة، فإذا تهدمت من الأعلى يكفي أن نزيل الأنقاض، حتى تنبت من جديد.
د.نبيل طعمة