الأمة السورية

الأمة السورية

افتتاحية الأزمنة

الأربعاء، ٢٦ يناير ٢٠٢٢

تجتهد الأمم للحفاظ على أصولها وإنتاج حضورها وتسوير وتحصين حدودها، تُولّد قادتها الذين يستثمرون في أبنائها المبدعين بهذه الكلمات، أبدأ إذا تقدم القائد زمنه بضع خطوات تبعه قومه، أما إذا تقدم زمنه ألف خطوة عميت عنه عيونهم، وغابت عنهم عظمته، وبهذا تنتهي الأمة، أو تتشرذم.
كيف بنا نعيد لهذه الأمة ألقها المسكون في أعماق صمت تاريخها، لأنها مزيج من نوازع متباينة تتجاذبها، فمن الناحية الواحدة نجدها ذات نزعات فينيقية كنعانية إيبلية تدمرية، تجمع منها قواها، ومن الناحية الأخرى يسكن جوهرها أحاسيس دينية عميقة ترتبط بمظاهر الوجود في وحدة كيانية قل وندر وجودها بين الأمم، من هنا كانت ابتداعيات أبنائها طامحة وقلقة في آن، مشرئبة إلى المثل الإنسانية التي تسعى لتحرير النفوس وعتقها من ربقة المادة، بحثهم دائم عن الهدأة المحقة في عالم الأحلام، عالم المُثل الرفيعة، حيث الحقائق متلاحمة رغم ما يعتورها من غموض، إنهم أشداء خشنون كحال المقاتلين الأشاوس وعتاة على أعدائهم، لطفاء وطرفاء كحال الصبايا في غنجهن.
تكالب المحيط من الشرق والغرب والشمال والجنوب، والكل تحول إلى جشع يريدها له أو يدمّر بناها نظراً لاستيلاء الحياة المادية على عقول مديري الطامعين بها، وإني لأؤكد أن كل الشرق يسكن في أعماق هذه الأمة، بثت منها جماله وميوله الخلاقة التي تعتبر أسمى وأجل من الحياة المادية التي تملكت وتمكنت في عقول الآخر، ولّدت وأظهرت ونشرت من جغرافيتها أسمى الروحانيات، ورجالاتها آلهة ونبوات ورسل وصالحون وأدباء وعلماء، في المجمل أمة بناءة لا يتعب أهلها من صراع الوجود والبقاء.
الأمة السورية مغذاة من موارد الجمال الأزلي ومتطبعة بتنوعات الجمال الإلهي، مبادئهم الوَدَاعة المستحكمة في عقول وقلوب أبنائها، والطهارة تنشر أجنحتها فوق مخلوقاتها الجامدة، جبال، مهاد، وديان، شواطئ وبوادٍ، السماء بمصابيحها وقمرها تنير حقولها وبساتينها، فتظهر الحياة منها كأنها حلم من الأحلام الفتية الرائعة.
ما أجمل عذارى الحب وسيادته، وفتوة شبابها، وحكمة كهولتها، ورقة شيبها، ودقة معلميها من صناعها وتجارها ومبدعيها! طبيعة هذه الأمة نشأت في ظلال الشرائع الشرقية القديمة، ملأت قلوبهم، وتراكمت في عقولهم، فقدموا من خلال كل ذلك إلى العالم أهم ديانتين سماويتين، المسيحية والإسلامية، ولولا هذه الأمة لما كان هنا أو هناك أي تقدّم روحي حمل لهم كل الفضائل دفعة واحدة، وعندما تراجعت هذه الأمة، وقضمت أطرافها بتنا وأصبحنا نشهد انتحار الفضيلة لدى الجميع على مذابح المادة التي أيقظت النزوات والشهوات، واعتلى رؤوسهم الخيلاء الذي أدى إلى استباحة الشعوب والأمم.
التكالب على هذه الأمة في أبشع صورة، والتقدم العظيم من هذه الأمة إلى الأمام يعني نهوض الأمة لاستعادة عظمتها التي أنبتت العروبة من جوهرها، ومعها ظهرت لغتها العربية التي كانت سابقة على المشاريع الدينية، هذه الأمة التي تواصلت مع القارات حتى وصلت القارة الأمريكية من سواحلها الفينيقية، قدمت أجمل الألحان عبر قيثارتها ومفردات حروفها المسمارية.
الواقع يشير إلى أن ما جرى مع هذه الأمة عنيف وخطير نتاج الأحداث والحوادث التي أنارت المغيب من فكرها الإنساني، وحَمّلت الكثرة من الناس وأهمهم الشباب على أن ينظروا إلى واقعهم نظرات الخوف والقلق، لأنهم وجدوا فيه مرارة مأساوية أدت لميل سوادهم إلى الكآبة أو الاضطراب أو الانفلات، وهم يشهدون على انفراط عقد العروبة التي انبعثت من جوهرها وانهيار مفاهيم القومية السامية كحاضنة علمية فلسفية راقية، وبالتالي تشرذم أصل أمتها بين مرافئ الدول والأمم بحثاً عن أماكن دافئة، تسمح لهم باستنهاض قواهم رغم قوة المخاطر في المسير إليها، ولولا استمرار بقايا الأنوار المبهرة من حضارتها التي أبقت بعضاً من سهام إضاءاتها على أفكار المتقدمين من الأمة لفقدت الأحلام وانهارت قوى عزومها، لكن إرادة الحياة والحفاظ على أضوائها أظهرا مقاومة مهمة منعت الانحدار أكثر والانحلال والانحراف.
كيف بنا نحافظ على بقايا هذه الأمة؟ هل نتجه لتوليد مبدأ السياسة الروحية، أم نعتمد الاقتصاد الديني، أم نأخذ بالعلمية العلمانية، أم نقول: إن الدين للإنسان والوطن للأناسي؟ لأن الله لا يحتاج للأديان، بل المؤمنون به وبالحياة، يحثهم على العمل الجيد والإنتاج الجيد، ويدفعهم لأن يكونوا أمماً وشعوباً وقبائل، وأن يتعارفوا، لا أن يعتدوا على بعضهم، هذا غيض مما فاضت به الأمة السورية على الأمم، فهل نعمل لإعادة حضورها؟
 د. نبيل طعمة