روح العصر

روح العصر

افتتاحية الأزمنة

الأربعاء، ١٩ يناير ٢٠٢٢

الإنسان بجزأيه يمثل الغاية الأولى والأخيرة في هذه الحياة المعروفة لديه، لذا يكون متصلاً بالأبد، لأنه نافذة فريدة يطل منها إبداعه بكل تنوعاته، ومادام كذلك فهو يحيا في المطلق، وتمرده الدائم على ظروفه ضمن المكان والزمان المعيش نتاج مطاليب الجسد، وأي بحث أو طلب يعني تعويضاً عن النقص الجسدي «المادي»، أو تصحيحاً لانحرافه عن غايته الرئيسة التي وجد من أجلها رغم ظهور الآلام ضمن مسيرته التي تؤخره أو تعرقل مسيرته، والألم لا يصطنع مهما جهد الإنسان على اصطناعه، لأن الألم والإرادة متنافيان، فالألم كالسعادة مظهر من مظاهر الحياة التي تصر على فتح أبوابها لكل مجتهد دؤوب وعنيف أو ليّن ولطيف ومترفع عما يعتور الإنسان في رحلته التي كثيراً ما يخلط فيها احتياجاته الشخصية بالحياة العامة، وحتى لو فصلها فإنه لن يصل إلى وضع يده على سر الكمال الكوني بما فيه من متناقضات، وخصوصاً من مبدأي الإخلاص والصدق في العلاقة مع الآخر وموجودات الحياة ومجرياتها.
روح العصر تقتضي الالتزام والواقعية، لأن الروح الهندسية الدقيقة شيّدت الإنسان وصقلته ليكون فريداً بين المخلوقات، وهذا الكون بما فيه فتح آفاقاً مهمة للفكر الإنساني، وشكل أبعاداً للأحلام ضمن الواقع رغم تداخلها المبهر وانفصالها المؤلم الذي يؤدي إلى تحطم وحدة الإنسان وانفصال القلب والغرائز عن العقل، ما يؤدي إلى ولادة الصراعات في داخل الإنسان أولاً وانتقالها للتصارع مع الآخر من جنسه بشكل رئيس عند تطور الشهوة ولغة أريد كل شيء، هذه الرغبات وتضخم الأنا تعتبر أسباباً مهمة لشيطنة الإنسان، ومادمنا اقتربنا من فهم روح العصر، فهذا الفهم يجب أن ينهي الفواصل بين الإنسان الذكر والأنثى من واقع أن الأنثى تمثل الأرض وهو بذارها. هي الكأس وهو ماؤها، هي الغيم وهو رعودها، هي التربة وهو محراثها، هي الولود وهو وليدها، وبما أننا نتحدث عن مجريات الانفصال والاتصال التي تجذبنا إلى الحياة، وتعيد فينا بناء النشاط، نجدها تدعونا للتفكر بواقعية الحقيقة والقدرة على فهم الأحلام وفهم معاني الغنى والفقر، هذان النقيضان المستمران أبداً يدعواننا لنسأل لماذا؟ رغم تناوب أحدهما عن الآخر، لأن الحدود بينهما غامضة ومتداخلة وغير محدودة.
هل يعقل أن ينحصر التفكير الإنساني الفردي بالرباط الذي يشده فقط إلى هذه الدنيا؟ أين لغة النفع العام ومن ثم المردود منها، الذي ينبغي أن ينعكس على الفرد والمجتمع؟
أيها الناس متى نعود إلى المنطق أمام الكم الهائل من الشرور التي يبدعها الإنسان والذي يراه بذاته، ويقول عنه: إن هذا شرّ، وهنا لا ينبغي أن نرفض هذا العالم، ولكن من الضروري بمكان الذهاب إلى مكافحته، والاستمرار بذلك يعني تمتعنا الواقعي بالحياة.
هل روح العصر رؤيا عن عالم الخلود بما فيه، وما يهيمن عليه من مفردتي العذابات والثواب؟ ألا يجب أن نسأل أنفسنا كيف استحالت عوامل المعرفة والروحانيات إلى عالم المادة الذي حول الفخر والأنفة إلى إغناء له، وأظهر مرّ العيش والاغترابات المضنية والجحود لكل جميل رغم ما حمله من إبهار بصري لا قدرة له على الاستمرار بحكم العمر الفني الذي يتشابه مع الإنسان؟ ألم تغدو المجتمعات ممتلئة بذئاب نتاج توهان بحور السياسة وانتشار صخب الأديان بدلاً من هدأتها، ما يرينا أن روح العصر لم تعد تمتلك وداعة الحياة التي كانت تنجز بعرق تضافر الإنسان الذي أبدع الحضارات وصاغ المفاهيم والقيم التي مهما حدنا عنها نجدها أمامنا، ولكن ننحرف عنها بإرادة الاستمرار في تدمير تلك الروح أو تعطيلها.
روح العصر لم تعد تؤمن بحامليها التي ولدت فيهم الثقة في الحياة، ومنحتهم قدراتها اللا متناهية الأبعاد من أجل الإفادة من الموجود وطلبها أن يعمروا إنسانها بالإيمان والأخلاق وتعزيز الإنسانية التي أكدت على الدوام أنها تنهار وتنزلق إلى أدنى درجاتها أمام همجية المادة التي انتشرت بين عتاة الأرض ومترفيها، وحرفت ساستها ومتدينيها، وحرفت جزأي الإنسان اللذين يحملان المسؤولية ذاتها عن التربية والمعرفة والثقافة والموروث، وجعلت منهم أدوات لا تدرك معانيها.
د. نبيل طعمة