بين عالمين

بين عالمين

افتتاحية الأزمنة

الأربعاء، ١٢ يناير ٢٠٢٢

يبدو طبيعياً أن نخوض غمار البحث في الأفكار المنجزة في العقل القديم، والمتداخلة بقوة مع عالمنا الجديد، مهما بلغت فترات تاريخيتها، ومهما حملت من إبداعات، فنقاشها من دون أدنى شك مهم ومفيد، وخاصة أننا موجودون في عالم الحياة، ونحمل عالم الآخرة بين ظهرانينا، ومعهما نجد أنهما سكنا ضمير الإنسانية منذ أعماق التاريخ الذي تصوره الإنسان القديم، ومذ ذاك الزمن حاول أن يكشف أسراره وغموضه، ويجد لفكره المتأمل، وأعماقه المتعطشة لفهم كنه هذا الوجود، والطمأنينة والسلام والراحة والأمان.
كان هذا التطلع في يقظة الحس، ووعي الفكر، نتيجة حتمية لنمو ضمير هذا الإنسان، فشعوره بالقوة الإلهية على النحو الذي اهتدى فيه إلى معنى الألوهية هو الذي أوحى إليه، أي إن هذا العالم الأرضي إنما هو جسر يعبر عليه الإنسان إلى العالم الآخر، الذي لم يعد أحد ليخبرنا عنه كحقيقة واقعة، وكانت فكرة المصير بعد الموت وفكرة الحساب على الخير والشر ينبوعين خصبين لتغذية خيال الفكر البشري، الذي بدأ مع رحلة بحث الإنسان عن مصيره، واستمر حتى حاضرنا، وأعتقد أنه مستمر إلى القادم القريب والبعيد، ولم تَخْل كتب الديانات الهندية القديمة «كالفيدا، والبراهما، والفيدانتا» من تصاوير العروج إلى العالم العلوي، حيث يفنى الإنسان في حدود الذات العلوية، وحتى في كتب الديانات الثلاث الكبرى «اليهودية، والمسيحية، والإسلامية» التي برعت في ذكر العالم الآخر وتصويره وأفكار الصعود والعروج وأيضاً، نجد ذلك عند زرادشت وصعوده إلى السماء على ثور مجنح، والمانوية الغنوصية وعروجها على جمل مجنح، هذه الينابيع على اختلافها كانت مصادر عقائدية وفلسفية، وامتلكت حيزاً مهماً في التأثر وتغذية خيال البشرية رغم وقوف الكثير على جادة التسليم بالقديم، من دون امتلاك قيم الإيمان أو البحث والتأمل بغاية امتلاك اليقين.
أيّ خيال جبار أنجزه ذلك الخيال البشري القديم، اخترق العقول كافة، وسكن الجوهر من دون القدرة على إبعاده أو مسحه، وعندما نعود إلى تلك الظواهر القديمة التي أبدعت في التطلع إلى ما وراء المنظور، لما بعد الموت، من ثواب وعقاب، نجد منها صوراً رائعة: وردت في كتاب الموتى عند المصريين «كيف يحاسب أوزيريس» في مجلسه القضائي الموتى على أعمالهم الدنيوية، كما يصور لنا رحلة إلى العالم الآخر ونظم الجزاء والعقاب في ذلك العالم، وفي نصوص الأهرام المصرية تبيان للنعيم السماوي، ومبلغ ما يلقاه الممجدون من سعادة أبدية، وقد عرف أيضاً البابليون والكلدانيون شيئاً عن العالم الآخر، فكان عندهم أن الموتى ينتقلون إلى مكان مظلم يسمى «أراكو» تحت الأرض، حيث تتولى الآلهة محاكمتهم.
نحن في العالم المعيش مدينون لفنون الحياة العصرية، لأنها مكنتنا من الاطلاع على منجزات العالم القديم، الذي أنجز فيه العالم الآخر، وأيضاً أتاحت لنا فرصة الانتباه إلى العديد من المواضيع في وقت واحد، لنكون كائنين نحيا بين العالم الجديد والقديم، ونناقش مواضيع العالم الآخر الذي ناقشه البعض من مفكري وفلاسفة العالم عبر الحقب الزمنية، نقاشات علمية وموضوعية، حورب سوادهم لمجرد دخولهم إلى هذه الأفكار، ورغم أهمية وجودها وضرورات استمرارها التي تستدعيها سياسات ضبط البشرية، ومنحهم الأمل الإنصافي في العالم الآخر، ومن دونها تبدو الحياة قاسية جداً، لأنها تبدو على شكل انقطاع كلي، أو نهاية قسرية لا أبعاد لها، فخيال الإنسان الهائل الاتساع استمده من خيال الإله في عملية إنجاز هذا الكون الخلاق، وبما أن الإنسان خليفته، فكان لا بد من استمرار هذا الخيال الذي يقنع العامة ويضبطها بالترهيب والترغيب، بالحساب ونتائجه الثواب والعقاب.
هكذا هو الإنسان في كل العلوم، فكك الجماد وصنعه، واخترق الفضاء، وتنقل بين كواكبه، إلا أنه مازال بدائياً في علومه الذاتية، فكان بحثه بطيئاً جداً في الكيفية التي صاغت أفكاره، على الرغم من كل ما بناه من حضارات رسمت من أجل تحقيق الأفضل للإنسان، فحتى اللحظة مازالت قوانين العلاقات البشرية غير معروفة إلى حد كبير، لأن العلوم الاجتماعية والاقتصادية تصنف ضمن قائمة العلوم التخمينية، وإن الاعتراف يدعونا للقول: إن الإنسان لم يقم حتى اللحظة أي اعتبار لذاته الحقيقية، وإن كنا نبحث في مسيرة الإنسان من أجل إحداث مقاربات عقلية تفتح الآفاق للفكر المتحضر بحضوره، والسجين بسجنه، والمتحرر ببحثه، بعد امتلاكه لمفاتيح حريته الفكرية.
د. نبيل طعمة