الوطن والميلاد

الوطن والميلاد

افتتاحية الأزمنة

الأربعاء، ٥ يناير ٢٠٢٢

كائنان متحدان جمعهما الإنسان المعجزة الذي لم يقدر على تجاوز صفائهما، والذي يتجلى على كل شيء، وأحياناً تجدهما مغلَّفين بالغيوم الرقيقة والداكنة، أجواء هلامية غير ملموسة، يمتزج الحب مع الألم والانتظار، مع العمل والخيال، الكل يطارد الأحلام، ذلك المشهد مزيج من واقعية صادقة دقيقة الخطوط والألوان، اندماج قوس قزح يظهر الأبيض متحداً للحظات، تحول الامتلاء إلى بداية على جغرافية وطن، ليبدأ العمل من جديد.
مازال العالم ينهل من عبقرية الميلاد وإبداعاته الفياضة، ثم يمضي لنسأل الناس كافة: ما أقل ما تجود به الإنسانية من أمثاله؟ بل أكثر من ذلك في تفرّده بسعة اطلاعه وعمق تفكيره وبعد نظره، خرج الإله من الجسد الفاني، ليس تخلياً، وإنما لحماية الكل من أنفسهم، لأنه يجسد الموسوعة الحية الحاملة لكل صفات الكائن الحي المبدع مع باقي الموجودات على أرضه، والتي تكون لخدمته.
إن مشكلة الروح والجسد مشكلة الكائنين الملتصقين في نشوة عميقة، وكأنَّ ارتباطهما وثيقٌ بين عاشقين. يردد الناس أينما وجدوا هذه المعادلة بوعي أو من دونه لمغزاها، فإذا كان وهو مؤكد أن الوطن أمٌّ فإنها الميلاد، الذي يمثل نوراً انبلج من ليل سواده حندس ليس فيها سواه، لأنه قبسها المضيء، كان هدفه تحرير الإنسان من العبودية والجور من غير تمييز في الدين أو المذهب أو العقيدة واللون، فهل نعرف مغزى هذه الوحدة النبيلة ودلالة وجودها أمام جبروت الإنسان؟
كما يحوم الفراش حول الشموع والشباب حول الصبايا تحوم الحكايات حول أهم المؤثرات التي مرت واستمرت عبر ومع الحياة، لذلك نراه يحضر أي الميلاد ضمن وطن في حمأة المسغبة وذل الفاقة وصَغار الحياة مؤمناً بوجوده الأرضي الفاني، وسموه الروحي العالي، يرى منه الوطن الأمّ، حيث فيه الهول مجسدٌ، والرعب مسيطرٌ والضيم ضاربٌ أطنابه، إنه وطن بمساحة رقعة صغيرة من هذا العالم الكبير لكنه كبير في آماله وأحلامه وخلاصه مما هو فيه.
وطن الملائكة والأطفال والخداع والعبادة وصور مختلفة تشكل أيقونات للميلاد، تنسج الراعي الصالح والعائلة المقدسة، مولد العذراء والسيد المسيح ومعجزة الخبز والظلال الرمادية، صاغها الرب الإله الذي كوّن الكونَ بالحبِّ..
الوطن لا يعرف الأديان، الميلاد ليس متديناً، لأنهما مؤمنان، يحتاجان إلى الحبِّ والإيمان، بالملكوت الذي يكون حالة رقي، تنتظر في الإنسان تفعيلها منه وإليه بين الكائنات الحية، يجده عقلها المدبر وقوتها الفاعلة، بل إنهما يجدان العقل الإنساني قادماً من العقل الكلي، إذا سكنه الإيمان يكون كلياً، فإذا وصل توجه لخدمة الحياة وتنظيم المجتمع والارتقاء بأخيه الإنسان وإيصاله لفهم مكوناتها التي تخضع الحسّ للفكر، بفعل ما تحركه العاطفة، وتستثيره الكائنات، ومعها يدعوانه لاستكشاف الخطيئة والبحث عن سبل وأدوات علاجها رغم أن الجميع يخطئ «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر».
إذا قيس قدر الوطن بما يحمل عليه من تراث راكمه إنسانه، فإن الميلاد حجة العارفين، وبحثٌ مستمرٌّ وراء المثل الأعلى في كل ما يصادفه، لأنه طبَّق الجمال فأبدع، والطبيعة فأحسن، والحياة فأجاد، وصوّر القصص الدينية فأوضح، والشخصية فعرف، ولم يترك في كل ذلك مجالاً للنقد، ولا بين ما اختار مكاناً للزلل.
وعليه فإننا نجد الوطن مجموع الأرض والإنسان والكائنات مشتركين بالميلاد الذي به يحتفون، ليضفي على الجميع مساحات من الحبِّ والبسمات والحياة، هذه التي تقاوم كل أنواع الخطيئة والرذيلة والموت القسري، والميلاد نبوءة جديدة، يحدث في مواقيته، كيف بنا لا نندمج معها؟ ألا يعني اهتمامنا بها تقديراً للحق؟ ألا يجسدان أحلامنا؟ وإذا أهملناهما ألا نكون قد أهملنا الحقائق التي هي أجمل من جميع الأحلام؟
الإنسان لا يعجز، لأنه وكما قدمت المعجزة الحقيقية بجمعه لهذه الثنائية المستمرة وغير المتشابهة مع أي شيء آخر، لذلك أشير إلى أن الوطن والميلاد يحتاجان منا نحن جنس الإنسان إلى التأمل، والعمل في كنه المرئيات، وبالقدرة الكلية على تفهُّم الجمال، بغايات الاستمتاع بما في الحياة من مكنونات لا يصل إليها إلا الباحث العارف، وإذا كان المجال لا يتسع هنا لوصف كل العلاقة بينهما، فإني أدعو المبتعدين والخاطئين للوقوف أمام مرآة أنفسهم، وأن يطهِّروها من دون حيرة في الاختيار، لنحرر العقول، ونطلقها من قيودها، ونعترف أن الحياة أخذتنا بعيداً عن قيمهما، بعيداً عن فهم معنى الميلاد وقدوم سنة جديدة، ومعنى متطلبات الوطن، فهل نؤمن؟.
 د. نبيل طعمة