ميزان الوجود

ميزان الوجود

افتتاحية الأزمنة

الأربعاء، ٤ أغسطس ٢٠٢١

الما وراء، الأمام، وبينهما الحاضر، الذي يظهر أن منبعه أرضي بامتياز، وأقدر أن أقول عنه: إنه حلم متكامل لدرجة الإدهاش، جسد تحصّل الخلاص من شرّ ما، وهو نهاية التعب، أو النقطة القصوى التي يصلها الإنسان بقفزة واحدة، تسمى البدّ الذي لا بد منه «الموت»، إلى أين؟ بدلاً من أن تكون إلى المجهول، أصبحت إلى المعلوم الذي قدم من الوراء، واحتل ساحة الأمام، التي حكماً تنتهي في الأرض، التي بدأ كل شيء عليها، وينتهي كل شيء فيها، ومن خلال هذا الحلم، لم تعد الأرض المقياس الأخير، إنما الأمام المجسد للآخرة، حيث غدا المنافس، لأن جميع العلاقات ومجريات الحياة على الأرض تتبدل فيها، وتمحّص من جديد لتوازن وجودها، فبعد إنجاز الإله لهذا الكون الروحي الهائل، ومع ظهور الإنسان، حدثت المعادلة، وظهرت الأرض بقوة، مانحة الإنسان قدرات وزنها، ومطالبة إياه بالإخلاص لها، وهذا يكون باتباع درب المكون الرئيس، وأن يكون هذا الإنسان خليفة حقيقياً للإله، الذي به تتجلى الأمور الإنسانية كافة.
مؤكدٌ أن الحياة ليست من محض صنع الإنسان، إنما الإنسان بوصفه فناناً مبدعاً وحكيماً خلاقاً للأفكار، وفي الوقت ذاته منه كانت النوابغ التي أضفت على الحياة شروطاً حددها بنفسه تحت مظلة قوى فاقته في قدراته الفكرية، دعته للاستمرار في الإبداع والاختراع، ما شكل قيماً حقيقية، منها ما اعتبر أساساً لهذه الحياة، ومنها مستمر في بحثه، بغاية تطوير الإبداع أو الإكثار منه.
تولد المأساة بين الفينة والأخرى، ولكن الأهم هو موتها أو نهايتها، وهي تحضر أو تظهر من اللعب بالنار، التي لا بد أن تحرق مشغلها ومحركها، هذا اللعب جزء مهم من ضرورات الاستمرار، ويقوم به الإنسان بذاته، بشكل أو بآخر، لذلك نجده اخترع الأمام، وهنا لا أعني المستقبل الذي يخطط له بامتياز، وإنما الذي يأتي بعد العودة إلى باطن الأرض، وفي العودة لفهم البداية نجد أن بعضاً من الإنسان أدرك معنى خلافة الإله، وعدم قدرته؛ أي الإنسان، للتحول إلى إله أعطاه حرية هائلة، جعلت منه حراً ومستقلاً في آن، واستوعب أسباب وجوده، فراح يعمل للأرض وللإنسان بإيمان وثقة وفهم عميق بعدم تجاوز الأرض، لأن عليها البداية، وفيها النهاية التي تمثل البد النهائي، بعيداً من تلك التصورات التي اخترعها الإنسان، لتكون في الأمام بعد وصوله لمستقبله، من هذا الفهم العميق لأسباب وجوده وتسلحه بالقوة والمعرفة وضبط النفس مع نياته بأبعادها وقدراته على العفو وحسن التصرف والسلوك الجيد وضده، مثلت في مجموعها أدواته اللامادية، يحركها بالشكل المادي الذي دعاه لخلق ميسرات حركته، وكانت مادية بحتة، ليكون بذاته روحها، فلا تعمل من دونه، كما أنه لا يعمل من دون روح مكونه.
ميزان الوجود يجسد الحاضر بكل ما فيه، عين على الماضي، وعين على الغد، يشير إلى أن الحياة ممتلئة بكل شيء، من السمين إلى الغث، وهي تدعو دائماً للاختيار، تمنحه للإنسان، تضعه أمام الاختيار: احترمْ تُحترم، ساعدْ تُساعد، استرْ تُستر، اخذلْ تُخذل، اصبر تَنلْ، وهي تمتلك الإنصاف النادر، فإن لم تحصل عليه يصل أسرتك، أو يدركه محيطك عاجلاً أم آجلا، وكل ما تفعله في مسيرتك الحياتية ستجد نتائجه أمامك، ربما تؤجل الحياة الدفع لك، لكنها لا تتنازل عنه أبداً، وهنا لا أريد أن أشوّه القدر الإنساني، الذي غدا في حالة صعبة جداً أمام التهافت البشري على الغث، ومعه امتلأت الحياة بالخطيئة والظلم والمرارة، وأيضاً لا أريد أن أظلم الخالق، الذي بدأ البشر يذهب إليه مسائلاً: هل خلقنا لنعاني وهو براء، لأنه أنجز الروحي، وترك المادي للإنسان، الذي وجد بين كفتي الميزان.
إن ماهية عظمة الإنسان تظهر في أنه شكل جسراً بينه وبين فكر الإله، لكونه خليفته، وأيضاً بينه وبين كامل الموجودات، بمن فيها سواد الناس الذين يخضعون لأولئك الرواد المستمرين في الإبداع، الذين يضحّون بأنفسهم، وأقصد العاملين والمخترعين والساسة والمفكرين، هؤلاء الذين يعيدون للحياة ألقها، كلما جنى بتفوقهم على أنفسهم، راغبين في إحياء الأرض، التي أساء إليها كثيرٌ من إنسانها، فرسم له صورة منقسمة بين الجنة والنار، أطلق عليها العالم الآخر.
ميزان الوجود إنسان، ولكن أيُّ إنسان؟ هل ما قدمته يدعو للتفكّر؟ أدعه برسم فكركم.
د. نبيل طعمة