الوعي القومي

الوعي القومي

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٢٧ يوليو ٢٠٢١

القومية واقع تاريخي جماعي قديم، حضرت من لغة قوم أيضاً، استعادت حضورها بشكل ضخم في الحضارة الأوروبية بين نهايات القرن السابع عشر وبدايات القرن الثامن عشر، وعلى وجه خاص من خلال الفلاسفة الفرنسيين، وتطورت بصورة محسوسة مع الحركات الثورية في نهايات القرن ذاته، وكلمة قومية ظهرت في سياق الحديث عن التوراة، وبقصد الدلالة على «تنوع عائلي» أو عائلات مختلفة في لحظة تشتت يهود بابل، فكانت للإشارة إلى شعوب موزعة من بلاد مختلفة.
إننا نحيا وسط أمة، ونعيش محاطين بالعديد من الأمم، وهي حقيقية في وجودها وكياناتها، وهي تشكل في زمننا هذا المبادئ الأساسية لوجود كل جماعة، أخذت شكلاً سياسياً وحضوراً آمن بالمبادئ والعلاقات الدولية واحترام نظمها، وهذا ما كان ليحصل لولا ظهور المدينة الدولة، التي أنجبت السياسة، هذه التي أسست لعلم السلطة، وهيأت رابطة بين الأمة والدولة أو الدولة الأمة.
لماذا أتحدث هكذا؟ لأن المجموعات البشرية غدت منجذبة أكثر فأكثر لمفهوم الدولة عن مفهوم القومية، الذي يتم الخلط بينه كأيديولوجيا الاستقلال القومي لحق من حقوق الشعب والشعور الوطني الذي يكمن في الإخلاص لوطن تقوده دولة، يشترك فيها العديد من الأعراق التي تعود لتوالف قومية نوعية، كالقومية الأمريكية والبرازيلية والبريطانية، وحتى الفرنسية، هذا الذي يسعى إليه المتنورون العرب لخلق قومية عربية، لأن المشتركات بين الشعب العربي كثيرة ومتينة، بل متجذرة ومتأصلة، فإذا أخذنا الهند نجد فيها مئات القوميات، إلا أن اللغة والدولة منحتهما صفة واحدة، وهذا ينطبق على الفرنسيين والإنكليز أيضاً.
القومية ليست أيديولوجيا، لأنها خلاف ذلك، وفي الوقت ذاته هي أيديولوجيات الاستقلال والتطور والتقدم والدمج والانصهار وتوحيد المشاعر، لذلك أجدها أعلى من مسمى الدولة والوطن، وهنا أؤيد الاتجاه إلى إعطاء القومية سمة الوعي، من خلال تنمية الأخلاق القومية، وبما أن لكل شعب خلقاً قومياً، فيجب العمل لأن يكون للشعب العربي خلق قومي، هذا الذي يجب أن تدفع به السياسات العربية من خلال تشكيل مؤسسات قومية، تكوّن وتتحدث عن عبقرية الشعب وخلقه وأذواقه وآدابه، وتجعل منه ذاتاً دون سواه، ومعه تشكل رافعة تلهب الحب للوطن المبني من ثقافات وروابط نوعية وإيجابية، يتعذر اجتثاثها، وتنهي ضجره من موطنه، وتطلعه إلى الشعوب الأخرى، حيث تمتلك الملذات التي حرم منها في وطنه، وعندما تُدَمر الدولة القومية بالاختراق أو بالحروب نجد أن النزعة القومية تعني ما يتبقى من الشعور الوطني.
نعم يجب أن أكون وطنياً سورياً وقومياً عروبياً في وطني ودولتي ومع الأمة المتوزعة في أوطان ودول الأمة، فحب الوطن والبناء له والاستشهاد الجميل والعذب دفاعاً عنه وعن القومية التي تخصه، حيث كانت الأمة العربية سائرة بقوة ومتطلعة إلى الوحدة القومية، وحملت راياتها سياسات وساسة آمنوا بها، وجدناها قد استعبدت واخترقت بصورة مقصودة لحسابات ضيقة ومؤثرة، كان أهمها لمصلحة الشمولية الدينية.
الوعي القومي يحتاج إلى نهضة حقيقية، وخاصة أن جميع الظروف جد مؤاتية، بحكم الذي مر على هذه الأمة في دولها من حروب وخراب ودمار مادي ولا مادي، غايتها تمزيق الدول الممزقة في أساسها بشكل لا تقدر على القيامة من جديد، والذين يخلطون بين فكرة القومية الحديثة وتعبير التناقضات بين الشعوب، وجدوا من أجل إنهاء هذه الشعوب، والمطلوب اليوم أن يقدمها الوعي على أنها حاضنة للجميع، هذا يقود المريدين لتعزيزها وعياً صافياً وإدراك ذاتيتها الخاصة بها، المكون من الماضي والحاضر والتقاليد التاريخية، فالأمة برمتها تجتاز مرحلة عسيرة ملأى بالصعوبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية، وتتضارب الآراء حول اختيار سبل الخروج من هذه المرحلة، وجلّ أبناء الأمة يستندون إلى أن الصبر مفتاح الفرج، ومنهم من ينتظر الخلاص على يد الأعداء، ومنهم من يعالجها بالارتجال، كلما حلت به أزمة فتق لها حيلة وفئة تؤمن بالعلاج الفكري العلمي وهي نادرة، وتدعو للعمل المنظم، وتؤمن هذه الفئة أن من واجباتها القومية المقدسة أن تيسِّر الفرص المناسبة والأحوال الملائمة لدرس قضايا الأمة العربية الملحة دراسة علمية في جو وطني علمي حر.
د.نبيل طعمة