الروح حرٌّ

الروح حرٌّ

افتتاحية الأزمنة

الأربعاء، ٥ مايو ٢٠٢١

سمحت له قدرته التوزع في كامل موجوداته التي صنعها، حرّك بعضها إنسان، حيوان، نبات، وترك بعضها ينتظر، ووضع الموجود الإنساني منها في مرتبة حكمها، وفي الوقت ذاته أدخله متاهاتها، من يغادرها انتهى إلى غير رجعة، مهما علا شأنه أو صغر، ومن اقترب من الجوهر، أدرك وجوده، انتشى، ومن هو بعيد لا يزال يبحث أو ينتظر تفسيراً، يدله على الإدراك وأصوله، فإذا دخلت في نفق، أو وقعت في مآزق، واقتضى مصيرك أن تجد حلاً، دعاك لإعمال العقل، فإن لم تصن هذا المصير، وتكرم معه الروح، فلن تستجمع قواك، ولن تساعدك الخفية منها في استنباط حل.
الحقيقة التي نصل إليها في البحث، تدلنا على أنه أوجدنا بالحب، وغدونا عياله، إذاً ندين بما نؤمن، هذا هو المفترض، فالولد على دين أبيه إلى أن يختار رؤية أخرى، وهذا ما أوجده عياله، فاختلفوا بعد أن اختار كل منهم ديناً أو مذهباً أو طائفة، وهو على غير ذلك.
الروح حرٌّ، سكن الكل، وترك لكل واحد اختيار ما يريد من العبادة والعمل، لذلك نجده ذهب بعد أن كوّن مخلوقاته، ومايزها عن بعضها من دون التفاته إلى الوراء، ليتمتع بما خلق، وترك لهم حرية حكمهم لبعضهم، فلا أحد يختصم معه، ووثق بأنهم لن يدركوا ما أنجز لهم من رفاهية الجمال في الحياة، دائماً وأبداً يكون الانتصار له، حتى وإن اجتمع كل عباقرة السياسة وجهابذة الاقتصاد وأبطال وقواد الجيوش وجميع رجالات الأديان لن يقدروا على هزيمته، تاه المفكرون والعلماء والباحثون عن فهم سبل حضور الروح وفهم ماهيته، يصلون إلى نظم بنائه الجوهري من خلال البحث والتشريح للموجود الإنساني ومحيطه.
قضية كبرى علاقة الروح بالإنسان أمام هوامش الحياة اللاهية السادرة وأناه الطامعة في كل شيء، التي تنشئ له المشاكل التافهة، والتي تلد الأحقاد والكره المصطنع، الذي يفرق بين الموجود والواجد، ويظهر المشاعر المزيفة التي تجهد دعاة الحروب والقتل والتدمير، وتطور لديهم شهوات لذة المزيد، ولأطماعهم ديمومة الخلود والبقاء، وهذا ما لا يحصل أمام قوة الروح وطعم خبزه، وخمرة ورائحة فصوله، وألوان ذاته المتجلية في لون النهار ومشاغلة وقوة الليل وجمال تذوقه.
الطريق إلى الروح ممتلئة بالمصاعب، ولكل حي منا إليه سبيل، فالأرض لا نهاية لها، ولكن مؤكد أن نهايتنا عنده ولديه، هنا أقول: إن الروح كاملة التمام، وهي صائبة، لأنها بثت الحياة في المخلوقات، وأهمها الإنسان، والاسترشاد بالروح يعني أن المسار صواب، ليتبادر إلى الناس سؤال، كيف غدت بعض المخلوقات شريرة؟ وكيف يخطئ الإنسان الذي يتجاهل نفسه ويخفي فكره الخلاق، ولا يسجد أمام منتجات يديه، وما في قلبه وأفكار عقله؟ هذه كلها المشغلة من الطاقة الخفية الحامل لمسمى الروح.
كيف لنا لا ندافع عن الإنسان المخلوق المتحرك بالروح، والخالق لكل الأشياء المادية التي بلا روح، كي يكون روحها، فهل يتأمل هذه الانسيابية والتحولات الحاصلة في اللامادي لتقود المادي؟ هل يدرك هذا الإنسان الروح أنه عالم بنفسه، وديِّنٌ في إحساسه، وعملاقٌ في آماله وأهدافه؟ إنه الأثر الجبار، يستصرخ الحياة والنهوض والانطلاق.
تفكروا فالروح أوجد للإنسان العقل الذي لا يتردد، وفيه القلب كثير التردد، فإذا اجتمعا حولا الإنسان إلى ما يشبه الفخار المشعور، والذي منه كان بناء الإنسان الذي نفخ فيه من روحه، الإنسان أهم ملاحم الروح، أوجده ليرى أن الحياة دائبة نشيطة، رغم أنها مفعمة بالغرائز المتضاربة وأساطيرها الغريبة، ليثير بها اشتياق متابعيها، وليجدد فيهم الحماسة، وينهي سأم المتابعين، إنها قمم وسفوح ووديان سحيقة، عقاب وثواب، حقائق ملموسة تظهر كمادة، لكن جوهرها روح، هل تؤمن أننا بدأنا من روحه، بعد أن تنتهي كمادة نعود إليه.
الروح حرٌّ، رسم الحياة وأنجزها بدقة، ونفخ فيها، فتحركت، وطالب مخلوقه الرئيس فيها بقيادتها والاشتغال لها، فأبدع طقوسها الروحية واحتياجاتها المادية، وهو مستمر رغم اختلافه الفكري والديني وصراعه على المادة وبين الأديان، وبينما الروح يستمع لأن كل ما أوجده من أجل الإنسان، والإنسان يختلف عليه.
د. نبيل طعمة