التربية العملية

التربية العملية

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٢٦ يناير ٢٠٢١

تشهد انقلاباً تطويرياً هائلاً، بدأ منذ زمن في العوالم المتقدمة التي أخذت تحصد نتائجه الآن، وتستعد للانتقال إلى الغد، وهو يجري بسرعة على تباين المناهج والمراتب والدرجات، فإذا كانت تستغرق للوصول إليها مراحل التعليم من دقيقها في الرياض إلى جليلها في الجامعات زمناً لا يستهان به، فإن هذا الانقلاب يعتمد التحبيب والتشويق، فلن يغدو الدرس بعد اليوم من الطعم السيئ المذاق الذي تضيق منه أنفس الطلاب، إنما سيكون فيه متاع لحضور النفس والفكر، وللأرواح إيناس ليقبلوا عليه بشغف، فالتكنولوجيا بدأت تهيمن على المدارس والمعاهد والجامعات والإدارات ومعاهد السياسة والعلوم والفنون، حتى لا يستطيع التعليم أن يؤدي مهمته من دون أن يعول عليها في إبلاغ رسائله إلى العقول والإفهام، وسيجد الطالب درسه في كل مكان يتابع دراسته بعينه وأذنيه، رانياً إلى ذلك اللوح الإلكتروني الصغير المائل أمامه، تتراءى عليه العلوم والمشاهد في أسلوب تربوي جديد، يساير عصره المرموق، الذي يأذن بتزايل أو تضاؤل «المعلم المباشر» والذي عرفته الأجيال الماضية والحاضرة، وكذلك معه الكتاب التعليمي المطبوع الذي ألفناه، حيث لا بد أمام التطور من أن يتزحزح كلاهما من مقامه المعهود، ولا يبقى له أثره المباشر في مجال التربية والتعليم، وهنا لا أنهي أدوارهما، إنما أشير إلى اتخاذ المعلم والكتاب أمكنة أخرى، ربما يتوليان فيها مهام التعقب والشرح أو المرجعية إذا احتاج الأمر إلى ذلك، ومعهما سيكون الروبوتيك المتعلم والمعلم في آن، هي كلمة أقولها على ثقة ويقين، وإني لأراها بظهر الغيب، وكأني أرى فيها حقيقة ماثلة في قريب أو بعيد قليلاً، هي نبوءة لا أقصدها من آفاق الوهم، ولكني استوحيها من تأمل وتدبير في الحاصل المتطور، طوعاً لما تسلم إليه المقدمات الصادقة من نتائج محتومة، فهي آتية لا ريب ولا مراء، لأنها ستصوغ لطالبي العلم والمعرفة والاقتصاد والسياسة والدين رموزاً أو أحاجي تروق وتشوق فكرهم لإغنائه بالمبهر العلمي.
إن الذي نحتاجه اليوم الاتجاه سريعاً والعمل حثيثاً لاستيعاب قدرات التكنولوجيا العلمية وتحويلها إلى ثقافة مجتمع تنطلق من التربية والتعليم، لأنها ثقافة المستقبل، وهي المظهر الأعلى لحضارة الغد وبعده، وضمن الآلفة الحالية القائمة على تأليف كتاب المستقبل، حيث يتوارى ظل المؤلف الفرد والمعلم الفرد، كما تتوارى سائر المقومات الفردية التي كانت تسيطر على العملية التربوية، وبذلك يغدو التعلم عملاً تبادلياً مباشراً، تتساند فيه ألوان شتى من الكفايات والمهارات، ونجد في تتابع المرئيات غنى يبتعد عن الإسهاب في الوصف، وفي إظهار النتائج إرشاد لا يفتقر إلى الإخبار والتعريف، فاللوحات المضيئة ستغدو أساس كل شيء، لأنها ستضيء في الجسد على شكل شيفرات تعليمية تخصصية، وعلى اليد الحاملة والمتفاعلة معها، وفيها وتحت خط البصر وضمن مساحته الهائلة السؤال الذي يفرض حضوره يكون في أين نحن الآن منها؟ وما استعداداتنا للتفاعل والتعامل معها؟
إنسان الغد سيعرف أنباء الدنيا وقت حدوثها لحظة بلحظة، تنقلها إليه هذه الوسائط التي تصبح تراثاً إنسانياً ضخماً، لما تحمله وتنشره من علوم وآداب وفنون، كيف بنا نشرف على ثقافة الغد بكل أنواعها؟ كيف بنا نوجه الأجيال إلى مناحيها الجديدة، ونوائم بينها وبين ملابسات الحياة في تطورها الدائب الموصول بمختلف ألوان الحياة في أساليب رائعة قوامها الصورة الجميلة والمعلومة الدقيقة والخلاف الخلاق أو الاختلاف الحواري، حتى وإن كان، لأن الهدوء معها يكون سيد الموقف، وتكون اللغة ومهما تباعدت مفاهيمها فهي قادرة على التفاعل من خلال الترجمة الفورية والمباشرة مع هذه الوسائط من الألواح الذكية، ما يسهل اختلاط القريب بالبعيد، عبر الاستماع إليه ومحادثته ومحاورته.
إنها دعوة للتربية العملية التي تظهر الآن من خلال تطوير الحواسيب والهواتف المحمولة والروبوتات التي أطلقت عليها الألواح المائلة أو التي تميل كيفما تشأ.
 د. نبيل طعمة