عالمٌ بلا حروب

عالمٌ بلا حروب

افتتاحية الأزمنة

الأحد، ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٠

كتب العديد من المفكرين عن "عالم بلا يهود" بين عامي 1850م و1950م، ومنهم كان كارل ماركس وسيغموند فرويد وجان بول سارتر، وبعد ما يقرب عن مئة عام ونيّف أي في عام 2010، كتب ضابط في الاستخبارات الأمريكية يدعى غرايهام فولر "عالم بلا إسلام" ولم يكتب أحد حتى اللحظة عن "عالم بلا مسيحية"، وهنا أسأل: هل هناك من رابطة بين اليهودية والإسلامية والحروب، علماً أن الثلاثي المقدس من منشأ إبراهيمي واحد، وحالياً تظهر فكرة هي العودة إلى الديانة الإبراهيمية، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط، وأجزم أنه لا يمكن الوصول إلى نتيجة من عنواننا مهما تحدثنا وحاولنا وبثثنا روح الإنسانية الخيّرة المؤمنة بالروح الكونية الموزعة فيما بيننا، والتي تدعو دائماً للحفاظ على الجنس الإنساني من قواه الشريرة التي نجحت في تلوينه، ومن ثم تقسيمه، وبعد ذلك دفعته لاستغلال بعضه، هذا الذي أظهر الدفاع والهجوم وحولته إلى أشرس مخلوق حي فاق كل تصوُّر، بعد أن استطاع السيطرة على جميع مفاصل الحياة بما فيها، ووصلت علومه بعد البر إلى الفضاء والبحار، من ذلك عاد هذا الإنسان ليهدد جنسه، أي إنه انقسم على نفسه بين خير وشر.

 ألا يغيظكم كل ما يجري؟ دققوا جيداً تجدوا أن لا شيء يسير باتجاه الأمام، والكل غدا يخالف تعاليم الأخلاق والحب، الكل وبشكل دائم يستعد للحرب، لا أحد يفكر في الحفاظ على الحياة، لا أحد يعمل من أجل الغد، الكل يستعد للحرب، وما أن تنتهي الحرب حتى تبدأ حرب، والحرب تهدد الكل.

 هل يمكن أن يسترجع الإنسان حياة ما قبل الحرب، أو أن ينشئ ثباتاً بعد الحرب، يأخذ به إلى صفاء طبيعي وهدوء تأملي، يحقق منه مشاريعه وأمانيه؟ أم إن هناك استحالة لتحقيق هذه الأحلام؟ من يمتلك القدرة على تغيير فكر الحرب من هذا العقل الإنساني أو إيقافه ومنع انزلاقه إلى ساحات الحياة التي تنادي بإعلاء شأنها؟ فإذا تمّ فهمها شكلت لهذا الجنس المنقذة من حروب المال والأديان والجنس والسياسة، هذه التي تعمل مجتمعة ومنفردة حثيثاً على قمع مقتضيات الإنسانية وإعادتها للصدارة بدلاً من نفي حضورها.

بعد أي حرب تظهر الأرض والإنسان من جديد، وهنا يجب على الإنسان أن يقرر مصيره ومصيرها بعد أن يحدد اتجاهه ومسيره على أسس علمية وعملية، لأن العالم مازال وتحت اللحظة في حالة حرب باردة أو ساخنة، ولم يصل بعد إلى السلام المنشود الذي يشكل أملاً إستراتيجياً للفكر الإنساني، وعلى الجميع متابعة العمل وصولاً إلى هذا الأمل، فإذا وصلنا لبناء هذا الإنسان العلمي والعملي المؤمن بأسباب وجوده نستطيع حينها الوصول والحصول على السعادة المفقودة، هذا يتحقق عندما يقرر الجميع القول وداعاً للحروب والبدء بنشر مفهوم الإنسان وإدراك ماهية مشكلاته ورسالته وعلاقته مع الحب وبناء الفكر في الجسد، لأن الجميع يشهد اليوم على البؤس الإنساني، وأنا هنا لا أريد أن أبيع الأمل، ولكن أطالب الجميع بالعمل له، والغاية إيصال الإنسان للاستمتاع بحياته.

 هذا يأخذنا أيضاً للاعتراف بان وراء كل إنسان عادات وتقاليد مقدسة ومدنسة، تدفع به إلى التصرف بها، والتاريخ يدوّن حركة المسارين، وقد يغلف أحدهما الآخر، كما هو حال جمال القمر الذي سرعان ما يتحول إلى سراب عندما تكتشف حقيقته، ولطالما عانى الإنسان تمزقات بين الأحاسيس بجمال الحياة والتوهان في بؤسه، فكان عليه العيش بين متناقضاتها، لذلك سعى أبداً لتحرير نفسه من الحروب، أو بالقيام بها، وهو يعلم في جوهره أنها ليست ذات فائدة، إلا أنه مستمر في أدائها وهو جزء مهم من أدواتها، يديرها فيقتل بها ويُقتل، وهنا يكمن منبع البؤس الإنساني.

 هل يمكن لنا أن ننجز فكراً جديداً يقود عوالم الحياة للاعتراف بشكل أو بآخر بإنسانية الإنسان، وتقر بمستلزماته، وتلهمه البناء فيه، بدلاً من الهدم؟ لأن لغته الرئيسة تحمل غاية التمتع في هذا العالم وجماله، فلماذا لا ينسجم مركزاه الرئيسان أي العقل والقلب وأيضاً اليد والمادة، هذه في مجموعها تؤمن بأن الحياة رفيقة قصيرة طيبة لإنساننا، فكيف به يستخدم شعوره ويعلن حروبه على حياة ذات الإنسان؟ لماذا يتعالى الإنسان على الإنسان؟ أليس هذا الجنس يواجه متاعب الحياة بصبر وشجاعة رغم معرفته أنه آيل إلى نهاية؟ كيف به يعتبر أن حروبه ضرورة؟ هل لأنها تجسد له ظاهرة الأنا؟ هذه التي كلما تضخمت مال بها على جنسه، يستعبده أو يسيطر عليه، وصولاً لدرجة إفنائه.

 مؤكد أن المال هو سبب الحروب، لأنه يميل بمالكه إلى الشر، ومن ثم إلى الهاوية إن لم يشكمه ويحسن إدارته، ويعيده إلى ما ورائيته التي يدافع بها عن وجوده وعن جموح غرائزه الفتاكة وسعيه لامتلاك كل شيء، طبعاً ينجم هذا عن عدم وصول الإنسان إلى القناعة التي كل ما يقال حولها ما هو إلا نفاق.

الحروب تنتج الشقاء الاجتماعي، وتغرق الناس في البؤس إلى جانب الترف، وتفقد التوازن والتضامن، وتنهي التعاون، وتضع القوة في معاصم البعض القليل على حساب الكثرة، وهذا ما يفقد السلام سبله، ويدخل الكل إلى ساحات الصراع.

 هاأنذا أستحضر القديم السامي الذي صنع السلام نتاج أعتى الحروب، أدعو إلى مائدته الأنبياء والأولياء والفلاسفة والفنانين المؤسسين للفنون السبعة، ومعهم عظماء الفكر والسياسة، وأحضر لهم الحطب القديم ليتدفؤوا عليه، وأسكب الخمر المعتق من دم الآلهة وأنهارها، وأسألهم قبل السكر كيف كنتم أصدقاء؟ وكيف كنا نثق بكم وبأفكاركم؟

الحروب تبنى من نظرية التفوق، لا تستند إلى الكمي، وإنما تعتمد على الكيف المنتج والمبدع، وإذا اعتمدنا نظرية الشر فإن الشر إن توافرت له القوى تفوق، بل فاق كثيراً الخير الذي يريد إلى تملكه، ومن ثم تحويله إلى منظومة يديرها، وهذا ما نراه أثناء تطور الإنسان مادياً، يراكم ماله إلى أن يمتلك قواه، وعندما يتربع على عرشه يبدأ في التحكم بكل شيء، ومعه نراه يفرّ للخير منه، فيبني الكنس والكنائس والمساجد والمعابد، ويعطي من فائض ما جناه، ويطلق عليه الخير، لأن جوهره هش وخائف ومزيف، ويحاول أن يضلل نفسه قبل أن يضل الحياة.

 يبدو أننا نتكلم كثيراً عن الإنسانية وعن الحب والأخلاق، وكأنها أحلام تحيا في داخلنا فقط من دون أن ندركها، وهذا ما يسبب لنا التعاسة منذ زمن بعيد، وبشكل خاص مع ولادة الأديان التي تدعو من خلال كتبها المقدسة وتعاليمها وتفاسيرها وتراتيلها وأناشيدها إلى الإيمان والحب، وإذ تكتشف أن لا مكانة لهما في هذه الحياة، وأن التزييف الأكبر الذي تحياه البشرية نجده في الحب والإيمان، وللأسف فالذي نراه هو عبادة لرجال الأديان وللساسة لا لمؤسس الحياة، ولا لقيمة الحياة، وبالتخلي عنهما ذهب الإنسان لتطوير الأنا وتضخيمها، حتى وصلت إلى سلاحي المال والعتاد، فكانت الحروب، والحرب فقط هي التي تحكم البشرية بكل أشكالها، فمن يقول إنه من الممكن أن يكون العالم بلا حروب، كمن يقول عالم بلا أديان.

 إن الإشكالية الحادثة ومنذ وعي الإنسان لحضوره على وجه هذه الأرض هي فيما يعتقد من دين أو أيديولوجيا، إضافة إلى الثقافة، خاصته هاتان المسألتان اللتان لم تقدرا حتى اللحظة على التوقف عن بث روح العداوة للإنسانية والمسؤولتان عن ثقافة الحروب والإبداع فيها.

 عالم بلا حروب خديعة الفكر للإنسانية، يقدمها حيناً على طبق من ذهب سرعان ما يبيعها ويقتلها أمام حاجاته، فإلى اللقاء مع عالم بلا أديان، ومن ثم عالم بلا سياسة، وبعد إلى عالم ممتلئ بالأخلاق.

د. نبيل طعمة