ليليث وآدم

ليليث وآدم

افتتاحية الأزمنة

الأحد، ٨ نوفمبر ٢٠٢٠

نقاش مستمر حول من الأول؟ من يقنع من؟ كلاهما منتبه لأي كلمة تقال، لأن استخدامها سيكون بمنزلة اتهام للآخر بالتقصير، ما يؤدي للبحث عن الانفصال، أو اعتماد الخيانة الجنسية، كتعويض بالفكر أو بوسائل يدوية أو اصطناعية، لأن الأنثى هي التي تتذوق الجنس وتقيّم الأداء وتمنحه قيمة وقوة الجمال.
إنهما الليل والنهار أولجتهما الحياة في بعضهما بغاية إخراج النور القادم من الحب، فتارة يعتلي النهار الليل، وتارة يحدث العكس، تناوب مبهر من لحظة بدء الخليقة ووصولنا إلى مفهوم الجنس الإنساني الذي أطلق عليه جنس، لأنه قادر على الإيلاج، كما هو حال باقي المخلوقات من الحيوان واللقاح للنبات، وتمت تسميته "الإنساني" لكونه فهم وأدرك معانيه وجمالياته والضرورات المهمة للقيام به، فمن دونه لا استمرار، لا تواصل، لا تكاثر، لا حياة، فكانت له لغته الناطقة المتجسدة في المشاعر والأحاسيس والاحتضان والتقبيل والمداعبة مع الوداد الذي يسمح له أحياناً وأثناء حدوثه باستخدام كل ما يتخيله الإنسان، أي يستطيع الإنسان بجزأيه إحداث كل ما هو ممتع ومفيد وجميل أثناء القيام به، فهو أي الجنس لا يمتلك لغة معقدة أو صعبة، ولا يحتاج إلى دراسة تخصصية، ولا إلى ترجمة حرفية، لكن لديه كل يوم جديد، فأنا أعتبره فناً مهماً، بل أهم فن من فنون الجمال وبناء الذاكرة، فالأنثى إن انتشت يمكن أن تنسى مكونها وأبويها لحين، وتتعلق بالذي اخترق عقلها، ولاقح فكرها، قبل أن يلج قفلها، لذلك أصرّ على أنه ليس غريزة كما هو عند الحيوان، رغم أن الكثرة من البشر تتعامل معه على أنه غريزة وشهوة، تمارسه وتحتقره باعتبارها له أنه وَسِخٌ ونَجسٌ، وأنه أيضاً عمل من أعمال الشيطان، يوجب الاغتسال الفوري بعد القيام به، رغم أنه مقدس كقدسية الصلاة التي يتطهر الإنسان قبل القيام بها، لأنه إن أراد أن ينجب منه إنساناً يكون من خلاصة نقاء الإنسان، أي إنه من قمة نقاء الطرفين اللذين يستذكران أن الصبح يتنفس الصعداء بعد قضاء النهار وطره من ليل جميل.
 تفكروا معي في هذا البناء المسمى إنسان وما فيه من أعضاء، ولنرتب أهمية وجودها، وغايتنا استنهاض العقول الكسلى التي تعودت على توارث الأفكار المعلبة التي خلقت فيها الاعتياد دون الإبداع والخدر الداعي للاستسلام دون عناء فهم العلاقة، تفاصيل أضعها على نار هادئة، تثير الجدل بغاية الوصول إلى إدراك الحب والحميمية أُسي الوصل والتواصل اللذين يتقدمان على كل ما في العقل الاجتماعي والثقافي والديني وما إلى ذلك، تتجلى آثاره في أن الحاضر هو وليد الماضي، كما أن المستقبل هو جنين لم يولد بعد، يسكن بطن الحاضر، ولادات متسلسلة عبر تاريخ مديد، ترينا قوة أو ضعف السلوك الإنساني عبر حقبه وحتى اللحظة.

 ما إن يتم ذكر كلمة جنس حتى تتجهم الوجوه، وترفض الحديث عنه، أو ترسم البسمات، وتعلو الضحكات بحلول الحديث حوله، وهذه الاختلافات حول مفاهيمه وطرقه لا تقتصر على جغرافيا معينة أو زمان محدد، أو على الذكورة فقط، وإنما تجري بين الأنوثة أيضاً، التي تشتكي دائماً من ضعف الوصول إلى النشوة المبهجة، فما هو أخلاقي هنا قد لا يكون كذلك هناك، وبين هنا وهناك تجد الجميع من الجنسين الذكور والإناث يعيشون الجنس، ومنهم من يفهمه ويقدره ويسمو به إلى مراتب الحب، ومنهم من يبقيه حيوانياً تقليدياً دون إدراكه لمهامه الحيوية للجسد ولاستمرار الحياة، فالحيوان لا يقدر على الممارسة إلا بالقفز على الظهر، أي لا يستطيع القيام بالعناق والقبل والتبادل الجسدي، أي الإبداع في الحركات، لذلك عنده تكون غريزة.
 صحيح أن الحديث عن الجنس صادم للعقول، ومستفز للمشاعر، ومؤرق للمتدينين، ويسعد المؤمنين، ومقلق للمتعلقين بالمألوف، ومهم للجامحين الذين يطلق عليهم العاهرين، وللعلم إن العهر هو الإبداع والخروج عن المألوف، وهو مختلف جداً عن الزنى أو الدعارة أول وأقدم خطيئتين عرفتهما الحياة، وحينما قلت: إن الجنس فن يجب تهيئة أدواته وعلم اجتماعي مهم، ولكي تصل الحب عليك إتقانه لتصل إلى السعادة القادمة من جمال الفعل، وعفوية الأداء تشكل هالة تخرج الطرفين من عالم المحسوس إلى الذوبان، فالجسد لا يمتلك الشطآن، ولا تحدّه حدود.
مؤكد أن للجنس قوة نفسية هائلة تمنح الحيوية، وتبعث على النشاط الذهني، من دون أن يجتمع العقل بالجنس، وصحيح أنه يحيا في العقل، إلا أنهما ينفصلان تماماً عند الممارسة، والإنسان مطبوع في خفايا عقله على طلب العلاقة بغيره، فإن لم يحيا مراتب الحب فهو على مثال باقي المخلوقات، والحب يعني الالتقاء على أهداف الحياة بين الذكر والأنثى، فلا يمكن لأي منهما تجاوز العقل، كما أنه لا يمكن تجاوز احتياجات الجسد من خدمات الطعام والنظافة، وأهمها وكما ذكرت الجنس، فالذي يميز الإنسان عن الآخر ليس جسده أو لونه، إنما أفكاره التي يحولها إلى أفعال، بعد أن يكتشف نجاح ذكورته، وتدفق أنوثتها، هاتان الميزتان اللتان تمنحان الحب المؤهل الحقيقي لإحداث أي نجاح، والأنثى على مدى التاريخ تنشد التحرر، والذكر دائماً لا يستجيب إلا لذكورته حتى يفشل معها، فإما أن يتجه إلى غيرها، وإما يستخدم قواه الأخرى معها، مثلاً إغداق المال والعنف والإذلال، وهذا ما فعلته ليليث كرد فعل عندما اكتشفت ذكورة آدم، الذي لم يقدر على إيصالها للنشوة، فاستعبدته من خلال طلباتها التي لم يعد قادراً على تحقيقها، ليذهب إلى حواء التي احتوته بجميع جسدها، فكان منها توءما قابيل وهابيل المرتبطان بأفعال الخير والشر، وظهور أقدم مهنة في التاريخ بسبب التحول من الإنساني إلى البشري إلى المادي وآثارها.
نعم هي مشاعر الجسد وأحاسيسه التي تتكلم بصمت وبشكل مختلف، فيلتقي مع الجسد الآخر، يفعل الشيء ذاته الكامن في طلب الجنس مهما بلغ الإنسان من شأن، لأنه يصل حقيقة تكوين الجسد بما يحتويه الطرفان، فيكملان التقاءهما من مبدأ القفل والمفتاح وحق كل واحد منهما الذي يبقى يَزنّ في العقل، فإذا ضعف الجنس أو صدأ القفل، أو تآكل المفتاح، أو صدأ نشأ ألف تساؤل، ورُسمت علامات الاستفهام، وتشكل هاجس ينال من قيمة العقل والفكر، فالخوف من الفشل الجنسي أقوى من أي خوف، لأن من يخاف فعله لا يستطيع أن يبدأ الحياة، ومن لا يقدر عليه فهو بالقطع لا يستطيع أن يبني، ومن لا يبني يحيا على الهامش، أو تملؤه العقد والاضطرابات،  ويشعر بشكل دائم أن إنجازه يحمل النقص.
 هل يستطيع الإنسان الحياة بلا عواطف؟ هذه التي تَلِدُ من الجنس القوة، تمنحها للحب وللحياة في آن، وإذا عاش فراغاً عاطفياً فكيف له أن يكون؟ ولنسأل أنفسنا: هل راقبنا رحلة عبورنا من الظلمة إلى النور؟ أوَلم نمر من خلال ذلك النفق أو الفتحة؟ لنرى بعدها الاستقرار والطمأنينة والسعادة واختلاف الحقائق، فأقررنا بوجود طرف آخر، لولاه لما كنا، رغم أن حضورنا غير محدد، وإحساسنا بالحرية أولاً، وثانياً إدراكنا اللاحق لأبعاد العلاقة وشكلها وارتباطنا بالمكان والزمان، حيث تطور الوعي على نحو أو آخر، ألم يحن الوقت لنتحرر من زيف الأفكار البائدة حول الجنس وندرك قيمة إنجازاته المادية واللامادية؟
ليليث والدة حواء زوجتا آدم الأول، أسطورة الحياة وتاريخ الخلق الروحي يحتاجان منا فهماً أعمق لمقتضيات استمرارهما أمام ما وصلنا إليه من ابتذال لأهمية الجسد الإنساني المصاغ بدقة لامتناهية، ولعلمكم إن ليليث أي الأنثى إن أسعدها آدمها حققت له الكثير من الراحة والنجاح، فإذا حدث نجحت الحياة إلى درجة كبيرة.

د. نبيل طعمة