شيفرة السعادة

شيفرة السعادة

افتتاحية الأزمنة

الأحد، ٢٥ أكتوبر ٢٠٢٠

جميع الأفكار الإنسانية تدور حول الإنسان، وهي تسعى دائماً لتكامل الظروف والمعنى وتلاقي الرؤى الذاتية مع الشفافية المعقّد فهمها.

هذا يقودني إلى البحث والتقصي، ومن ثم التفريق بين معرفة خصائص الإنسان الواقعي ومعرفة الإنسان المثالي.

أبدأ بسؤال لقرائي الأعزاء: هل يستطيع الجزء أن يرى الكل؟ هل يقدر البصر أن يدرك كل ما يحيطه إن لم يكن هناك بصيرة؟ هل يقدر الفكر والعلم أن يريا دورة الحياة وما فيها كل يوم؟ هل يتحول المستحيل إلى ممكن إذا توافرت له الإمكانات؟ وإذا حدث فهل تتحول إلى حقائق فلسفية علمية أو روحية؟ من يهدم المتكونات، العقل أم القلب؟ ومن يوفق بين العلم والأديان؟ ونسأل: ما العلم؟ وما الدين؟ أهما شيئان معرفان ومفيدان للبشرية؟ أم هما حلّان للألغاز الكبرى وسبل للنفوذ إلى المجهول؟ أليسا وجهين للحياة؟

 الدين متصل بالقلب وخفقانه، والعلم يبحث في ماهيته، وإذا كان العلم تخصصاً وإحاطةً بما يختص به الإنسان، وكان الدين تنظيماً للحياة الاجتماعية وضبطاً للغرائر وحفظ التوازن بين الخير والشر، فأيهما يرسم الفرح أو البهجة أكثر، العلم أم الدين؟ وأين تكمن صور الانتصار المبهج؟

ما الذي يجعل الإنسان إنساناً؟ أليست الطبيعة جميلة لأنك تراها جميلة حتى تفقد جمالها؟ هل تؤمنون معي أن الفن مصدره شخصي، وأن العلم مصدره موضوع يلفت الانتباه، أي إنه شيء يجب تعريفه؟ ألا تؤمنون معي أن الثقافة كالمادة لا تفنى؟ بل تتحول كما هو حال الحضارة لا تموت، بل تتوالد منها حضارات جديدة، هل نحيا على الأمجاد، أم إن علينا الاستفادة منها لخلق مجد جديد؟ وتوليد ثقافتنا لا يكون إلا بالإبداع عبر فسح المجال لنهضة فكرية تؤسس من دعائم متينه.

كم نحن الآن بحاجة إلى عصر نهضة جديد بعد كل الهزائم والنكسات وانعدام الثقة واهتراء الثقافة والحضارة وكل ما يمت لشخصيتنا العربية بصلة، ألا تريدون معي صناعة البهجة ومحو العتمة التي لم تعد ترينا بعضنا بحلولها علينا، والسؤال: كيف نفعل ذلك؟

إن الشقاء الإنساني مرجعه إلى عدم التشجيع، هذا الذي مرجعه الجهل، الذي إن بقي قادنا إلى الحزن والمأساة، كذلك أجد ضرورة فهم الطبيعة الإنسانية وتحليل سلوكنا، وأن نعمل على تغييره، لأن شيفرة السعادة تبحث عمن يفكها بحكم وجودها بين القمة والهاوية المؤدية إلى القاع، والأناسي متنوعو الأفكار، فمنهم من اختار الطبيعة أو بعضاً منها ملهمة له، ومنهم من اتخذ الحروب أو تعلق بالبحار أو بالبوادي والصحارى أو الجبال، ومنهم من تعلق بالليل، أو أفسح للنهار حضوراً، ومنهم من اتجه إلى النساء، وكان منها ثمار لعلاقاته بهم مرةً أو حلوة، لكن جميع الأناسي ذكوراً وإناثاً مروا بالنجاح والفشل، وتلقوا صنوف العذاب وتقلبات الهبوط والصعود، ولفترات طالت أو قصرت، وغاية الجمع أن يصلوا المجد أو أطرافه وتحقيق حلم الشهرة.

ألا تعتقدون معي أن الحياة مبارزة.. وامرأة.. ومسرح يتمثل عليه جميع الأحياء، وكما يجب أن يكونوا كل في مكانه، وله دوره الذي يلبسه ولا يخرج منه إلا بعد أن يضيق عليه، أو يسقط منه، يحدث هذا في عالمنا العربي الذي يغطُّ في نوم عميق من الكسل نتاج إفلاسه الفكري الطويل، بعد أن فقد كثيراً من القدرة على النهوض، فترى سواده يصرخ في الظلال خوفاً من الأنوار، وحينما يبتسم تجده يضحك، وفي كل مفصل من مفاصله حزن ودموع، والشباب تبحث عن قطع الفحم، تشعلها.. تشمّع بعضاً من جلودها، علّها تشتم رائحة اللحم، وبعدها تأخذها، تعبث بها على جدران مخازن الغلال الفارغة، لأنها لا تعرف كيف تملؤها، وإذا فعلت في نهارها تتخيل مع صلاتها في ليلها أنها تلهو بين الخمر والموسيقا والنساء في رفقة صديق حميم، أو صديقة خاصة، أو بائعة هوى مستثناة، أو رفيق تقضي معه الوقت المستقطع.

كيف سادت هذا الشرق الظلمة وهو مهد المدنيات والحضارات والمعلم الأول للبشرية التي خطت أولى خطواتها نحو المدنية بفضله؟ وهل هناك من يقدر على فهم التاريخ ومن أي أرض كان أو شعب أو أمة، من دون الرجوع إلى هذا الشرق والغوص في تاريخه المدني والروحي، فيعرف ما أخذته بلاده من ثقافات وما أعطته، وأضيف إلى مجموع ما وصلت إليه البشرية.

سؤال: كيف ارتقى الإنسان، ومن ثم كيف سار حتى وصل إلى امتلاك علوم الأدوات والآلات التي هيأت لتاريخ الصراع واحتدامه على نطاق واسع في العقل البشري؟ هذا المسؤول عن ظهور السأم بدل البهجة، وخاصة في عالمنا الجنوبي، والعربي منه بشكل خاص، الذي اعتبرنا عالماً قديماً لا أنوار فيه أمام عالم الشمال الممتلئ بالأنوار، فكان تاريخنا تاريخاً للصراع المحتدم بشكل مستمر، ما أخر حتى اللحظة حضور الفرح والبهجة على وجود ليس الشعوب، وإنما أيضاً القادة، ما يدل على أننا بحاجة إلى إنسانية جديدة، تحدث تكاملاً بين جميع المسائل الإنسانية المختلف عليها روحياً وسياسياً، فما حاجتنا للفكر؟ وما الفكر في الأساس كي نعرّف ماهية الإنسان؟ وما قيمة القيم إن لم تتجسد في المصير الفعلي لبني الإنسان الواجب تضامنهم بدمج الفكري مع الأخلاقي؟ حيث منها تظهر ثقافة الجمال.

 إني أسأل قارات وأمماً استيقظت مبكراً، انتهت من وضع أسس نهوضها، وبنت فنونها، وطوّرت ثقافتها، وسارت على سبل النمو، وأحدثت حضورها على أسس عقلية وفكرية بناءة، فكان منها أن مزجت الكينونة بالعمل، وسمحت لازدواج المعارف القادمة من الأمم، وأخذت على عاتقها اكتشاف آفاق جديدة تطور الحياة ومسؤوليات لا سابق لها، تكون أبعادها مساوية لأبعاد الإنسانية جمعاء.

إنَّ النمو المذهل لفكر الشر والفساد يؤدي دائماً لانتشار الحروب التي ترسم من بدايتها خطوط الحزن والألم والمرض، أي إنها وفي أولى نتائجها أنها تقتل الفرح والبهجة بوسائل منتجة فكرياً، وفي الوقت ذاته تقلب معادلات المعرفة والفكر، وتعيدها إلى مساراتها التقليدية التي تبقيه ضمن عملية غامضة لا اتزان فيها، والسبب عدم قدرته على الاستثمار في المكان وجهله لقيمة وقوة الزمان.

هل لدى شعوبنا شيفرة سعادة كي نسعى لفكها؟ فهي شعوب حب العنف والشغب والفوضى، وما إن يشتم أحدهم رائحة حرب حتى يشمر عن سواعده، يخوضها في تهوّر واندفاع، حتى يكاد يفقد حياته من أجل عالم المادة الذي يتعلق به الإنسان إلى درجة الهوس، فلا يرى من دنيا السعادة الحقة شيئاً.  

شيفرة السعادة يفكها العمل الأخلاقي، وذلك بأنْ يؤمن واحدنا أنَّ ما يريده لنفسه يريده للآخرين، فهذه الشيفرة تحتاج إلى الشجاعة والإدراك السليم والشعور الاجتماعي والأمانة والإخلاص، فتتوالد روح البسمة التي لا تظهر إلا عندما يتم الاعتراف بأنّ الآخر هو من جنسه، مساوياً له مهما اختلفت أفكار الشرائع المقسمة لهذا الجنس المسمى إنسان، الذي يمثل صفحة بيضاء ناصعة، إلى أن تبدأ الأوهام والوساوس، فيتفادى الإدراك للمحيط الذي يشغل عقول الناس بالانفعالات والمشاعر الوجدانية والدوافع الغريزية بدائية عفوية أو شريرة مركبة، وبينهما تتحرك شيفرة السعادة التي أرسم وقوعها بين مفردات اللذة والأمان الجوهري المؤقت، وأقول عنه مؤقت، لأن لا ديمومة له، ومعه أختم قائلاً: إن السعادة مؤقتة، لأن الحياة جبلت من العمل والألم، والسعيد من يقدر على إنعاشها بين الفينة والأخرى، لتنعشه، ويعكس ذلك على الآخرين، فالسعادة هي صفة الإنسان الناجح، أي إن كل شخص بعد كل هذا الذي مررنا عليه أن يشكل نموذجه الشخصي في حدود السلوك العام، الذي يفيد فيه نفسه ومجتمعه، فيحيا بسعادة.  

د. نبيل طعمة