تقادم المعـرفة

تقادم المعـرفة

افتتاحية الأزمنة

الأحد، ١٨ أكتوبر ٢٠٢٠

لا شكَّ أنَّ زمننا المعيش يشهد ضروباً كبرى من التقدم لدى البعض من دول العالم وتخلفاً نتاج الحروب والذهنيات القديمة في إدارة شؤون التطور والتفاعل المنشود معه، وما وجدناه من نتائج هائلة وعلى الصعد كافة من الخدمات البسيطة والمركبة وصولاً إلى البحث عن حيوات على كواكب أخرى أكثر من مذهل، وعندما نأخذ بلدنا على سبيل المثال ونحلل واقعه، نجد أن النجاحات ما هي إلا طفرات تنبت هنا وتخبو هناك، وهي ضئيلة، حتى إنها تقارب الوهم في حضورها وأقوالها، فهي لم تصل لمواكبة المعارف الجديدة رغم افتتاحها لبعض من نتائجها، والسبب دائماً أن مرتكزاتها مازالت قائمة على المعرفة القديمة التي تتساقط بين الفينة والأخرى، محدثةً الكوارث أمام تسارع انتشار كل أشكال التقدم التكتيكي ووسائطه الناقلة له والمبدعة فيه، والتي تشكل طفرة مستمرة من دون توقف، وإن حدث وتوقفت لحين فلأنها تدرس نظم التوسع السكاني وحاجاته والتحرر السياسي الجاذب له والتوافق الديني على مقتضيات التطور، الذي يجب أن يكون من أجل متابعة الحفاظ على المنجز، ومن ثم الاستمرار في تحقيق المفيد، واللافت على اختلاف احتياجات البشرية التي ترى التناقض الذي يمزق عوالمها.

 من يدرك ويقدم الاعتراف من تنظيم التعاون بغاية إصلاح الحياة على أسس علمية ثابتة؟ وليكن هناك اختلاف في التنوع، العالم يحتاج إلى مغامرة من أجل بقائه المتحرك بسرعة نحو الزوال، فهل نستخلص من معرفة الماضي أطراً للتفاهم بعد أن نضع المشتركات من المطامح والدوافع، لتكون قواعد للالتقاء الفعال، الذي ينعكس على الإنسان في كليته المشخصة المؤثر الأول في الطفرات الفردية والمستفيد منها في آن؟ وإذا لم يكن الإنسان موضوع أي تقدم فإن انهيار العالم، ومهما حصل من تقدم، سيكون عارياً من أي معنى.

هل تتقادم المعرفة، أم إنها تتوالد مشكلة مجموعة المعارف؟ هذه التي يجب أن نعتبرها قواعد وأسساً لنبني عليها بشكل دائم الأفضل والأجمل والأرقى، كي لا تتحول إلى قديمة، ومن أجل أن تتوافق مع حركة التطور، ولو أننا بقينا على أفكار ومعارف القدماء، فهل كنا شهدنا ما نحن عليه الآن، وأحلام التطور تتحول إلى حقيقة كلما ظهر جيل جديد؟

 تفكّروا معي في هذا القول: هل يحق للإنسان قتل الإنسان؟ مؤكدٌ لا، فإذا كنا نحاكم القاتل لقتله إنساناً، ونعد ذلك جريمة من أفظع الجرائم، فكيف بنا نرتكب جريمته نفسها حينما نقتله لقتله سواه؟ ألا نكون قد ارتكبنا جريمة القتل العمد؟ وإذا كنا نريد من هذا العقاب إصلاح الناس ومنع الجرائم والقتل، ألا يوجد الكثير من الطرق لتحذيرهم غير سفك دم القاتل، كالتشهير به وحكمه بالأعمال الشاقة حتى المؤبدة، وزيادة فترة سجنه، ونشر ذلك على الملأ بقصد إدخال الرعب لمن تسوّل له نفسه القيام بأعمال القتل؟ وأستثني هنا حالات الدفاع عن النفس والدفاع عن الوطن، وهنا أتحدث أيضاً عن أن المجتمعات اليوم بأشد الحاجة إلى تاريخ حيٍّ تشرق منه معرفة جديدة، وهي التي ترفض الاستسلام لذاك التاريخ المزيف الممتلئ بالقتل والتشويه والسحل والحرق، والتي تعتبره مذنباً بحقها، وإلى تلك المعارف المتناقضة الممتلئة بالأساطير والمعجزات اللاواقعية، حيث انكشف الكثير من أسرارها أمام حركة اتساع العقل وإبداعاته، وما تراه البشرية من ذاك الماضي أنه مسوّغ للتخاذل والتنازل والاستسلام، وهذه كلها تدعو للحروب والقتل والسحل، والمتمسكون بها يخلطون دائماً بين الوضوح والتشاؤم، ويظهرون كمتشائلين، ولذلك يبقون في مرحلة الانتظار، والذي تريده البشرية اليوم تقدم الشجاعة والإقدام والصعود على التقادم، وهنا أدعو إلى أن تكون مشاركة الإنسان فاعلة في المجتمع، وأن عليه المشاركة في إحداث التقدم العلمي والمعرفي، وأن ينال قسطاً من هذه المشاركة، فالكائن الإنسان يولد حراً ومتساوياً في الكرامة والحقوق، فالحياة لا تعرف الحدود، وهي ممتلئة بالنتائج الفكرية والأعمال الفنية المنحصرة في عالم الشمال من كوكبنا الحر، ومحروم منها مجتمعات عالم الجنوب برمته، وإن كان هناك من طفرات فردية فيه فهي تعتبر متمردة على معارفها القديمة، ونادراً ما تبقى في مجتمعاتها التي لا تستطيع استيعابها بسبب التمسك بالمعارف القديمة.

مسؤولية من الوصول إلى المعارف الجديدة؟ مؤكدٌ أنها مسؤولية السياسة التي تدير الحكومات صاحبة الدور الأكبر في بناء المبادئ والقواعد التي ستبنى عليها، وهذه الأدوار بالتأكيد ستكون حاسمة رغم أنها مؤلمة ومكلفة وصعبة، لأن المطلوب اليوم من السياسة استيعاب مجتمعاتها، ويكون ذلك بدفعها إلى الأمام وإشغالها بعملية التقدم، وهذا لا يتم إلا بتحديد المعرفة والأفكار، وبهما يتم تحسين الأداء وتجديد الحياة عبر فهم الظواهر الكبرى القادمة من المستوى النفسي للمجتمعات، والانتقال من مراحل سوف نعمل، ومن التصريحات المقيدة للوعي إلى الوعي الحقيقي، وهنا يبدأ تحقيق النضج النوعي في تحمل المسؤوليات، ومعه يظهر الوعي الإنساني الذي يحتاج المعرفة الجديدة التي تظهر من بداية الأمر، على أنها عمل منسق يغطي كل أبعاد المسائل التي تخص المجتمع، ومعه تظهر كل الأبعاد الإنسانية التي من خلالها يتم إلى حدّ ما القضاء على الفساد المستشري أو الحد فيه، وحصره على أقل تقدير ليتطور الواقع الذي يستمد أسسه من الواقعية التي يطالب بها المنطق العام صاحب العلاقة الأولى والأخيرة في عملية التقدم.

 هي لعبة والعالم كله ألعاب، تستمد حركتها من القوى الأخلاقية والقوى الروحية، هذه التي لا يمكن حلها بالطرائق التقنية الحاصلة، إنما باعتماد السبل النفسية، والغاية إنقاذها من الجهل المتعلق بالتقادم المعرفي المسكون في العقول المتمترسة خلفه.

 لا أريد أن أمسح المتوارث، وفي الوقت ذاته لا أريد أن أوسع العقل أو أقبل الجديد، فلا يمكن تحقيق المفيد إلا من خلال نقل الأفكار إلى الواقع، لأن الشعوب تصنع تاريخها، وهي العاملة عليه والمستفيد منه، وخلاصها يأتي من جوهرها، لا من مظهرها، وإذا لم يكن لديها القدرة على تغيير ما تحمل فهنا تتقدم مسؤولية الدولة في توجيه التنوير إلى ما تريد بعد تحقيق الاطمئنان إلى الواقع المنظور والمعيش.

إن كل إنسان يتمنى أن يتغير نحو الأفضل، لأنه يدرك أنه مخلوق يكبر عمراً وجسداً، فكيف به لا يكبر فكراً؟ وما يحتاجه للوصول إلى ذلك التوجيه عبر التعليم الذي يجعل الإنسان أدرى بما يسره، وأعلم بما يسعده، ولو أخذنا العبر من التاريخ الذي روى قصص تطور الإنسان؛ من الجليدي إلى الحجري والحديدي والبرونزي والذهبي، وصولاً إلى عصر الاتصالات، الذي إن لم نستعد له منذ اللحظة فسنكون خارج التاريخ، فالقادم سيلغي القديم، ولن يأخذ إلا الممسك بزمام فهم المستقبل وما يحمله، فعلينا الإيمان بالتطور والتقدم وترك الماضي الذي من دونه لن يكون هنا أو هناك مستقبل.

 هل من أحد يريد العودة إلى تلك العصور، وما تحمله من أفكار يقال عنها إن الدهر أكل عليها وشرب؟ من كل ذلك أقول: إن الإنسان يسعى دائماً للانتصار على تاريخه، لأن قدراته الفكرية غدت تحصّنه، وتستطيع المنافسة في الحياة، وحصّنت الإنسان الواقعي والعلمي لدرجة هائلة.

هنا أستطيع القول: إن المعرفة معرفة يتصارع قديمها مع جديدها، لنجد بينهما إشكالية التوقف على مفارق الطرق التي تدعونا للبحث العميق في الوجهة الواجب اختيارها بعد غربلة ما نملك ورمي المنتهي منه، فلا بد من أجل إحداث التطور من الحذف أو التوسعة لقبول الأفكار النيّرة والفعالة، وإلا فسنكون في دائرة الماضي الممتلئ بالتخلف، وتكبر الهوة بين التقادم والتقدم.

د. نبيل طعمة